يحكى أن شركة تعمل في المجال الصناعي في الولايات المتحدة تعرضت لعطل ميكانيكي فني، ناتج عن خطأ بشري تسبب به أحد العّمال، وقد قدرت كلفته بنحو نصف مليون دولار.السؤال البديهي هنا: ما كان عقاب العامل؟ طبعاً الإجابة ستكون "من المؤكد أنه طرد". لكن في الولايات المتحدة تم التعامل مع القضية بشكل علمي ومنهجي ومنطقي. للتطمين، العامل لا يزال يمارس عمله بشكل طبيعي.
بكل بساطة، أضيف الخطأ إلى رأس المال الفكري غير المادي للشركة. فقد كان قرار المدير التنفيذي الابقاء على العامل معللاً بأنه إكتسب معرفة تساعده على تجنب الخطأ مرة أخرى، وأصبح عالما بالمسار الصحيح لعمله بحيث لا يخطئ ثانية، وفي حال طرده ستفتقد الشركة إلى معرفته، وأي عامل جديد قد يقع في الخطأ نفسه، وستتكبد الشركة مجدداً الخسارة نفسها.
الهدف من هذه الإشارة، هو الإضاءة على علم حديث بدأت نظرياته ومفاهيمه بالتبلور عام 1985 في الولايات المتحدة، وهو علم إدارة المعرفة.

ما ورد أعلاه من كلمات "المعرفة" و"رأس المال الفكري" هي من مفاهيم هذا العلم. لكن للأسف نحن، كلبنانيين، ما زلنا قاصرين عن الإستفادة من هذا العلم الهام لبناء مستقبل أفضل، خاصة إن علم إدارة المعرفة يطال مختلف جوانب الحياة والعمل.
يقسم هذا العلم المعرفة إلى فرعين: المعرفة المكتسبة والمعرفة الضمنية، ويعتبرهما جزءاً من رأس المال الفكري لأي منظمة أو مؤسسة أو شركة. نعم رأس مال يفوق ويضاهي أهمية رأس المال المادي، كون رأس المال الفكري مورداً لا ينضب ودائم التجدد والتدفق طالما الإنسان كائن حي وعاقل.
المعرفة المكتسبة، هي مخرجات التعليم، إضافة لما يتوفر من مصادر للمعلومات بأشكالها وأنواعها كافة، ويكون الانسان قادراً على تلقيها وإكتسابها.
أما المعرفة الضمنية، فهي ما يعرف عادة بـ "الخبرة"، ولذلك فلكل إنسان معرفته الضمنية التي إكتسبها من خلال مجال عمله، ومن اختباراته العملية لمدى ملاءمة ما تعلمه من نظريات أو قرأه أو سمعه أو شاهده.
وبالعودة إلى واقعنا المزري في مجال إدارة المعرفة، فقد أثارني مقال نادر صباغ في "الأخبار" (العدد 2442) بعنوان "الغباء الصناعي" و"الطربوش"، إذ لامس موضوعاً استراتيجياً ومهماً، إن دل فإنه يدل بحق على غباء، فلا شيء يتطور في لبنان، البلد المعروف عنه بأنه موطن الإبداع.
على الرغم من أن لدى لبنان، بحق، رأس مال فكرياً ضخماً تعبّر عنه صناعاته الثقافية (ماضياً دور النشر) والفنون (ماضياً وحاضراً) والبرمجة والتصميم الفني والابداع الاعلاني والاعلامي (حاضراً على خفر، وممكن مستقبلاً). ويشكل رأس المال الفكري حجر الرحى للإقتصاد القائم على المعرفة، والذي يعرف أيضاً بإقتصاد المعرفة.
ومن خلال إقتصاد المعرفة يمكن الخروج من الوضع المتأزم إقتصادياً، ومن خطط تنمية تساعد في استثمار هذا الرأسمال، في حال تم التوجيه إلى تعليم وتنمية مهارات التفكير وملكاته، وكذلك تأمين مدخلات تعليمية، وعمليات تشغيل تستفيد من المعرفة بفرعيها المكتسبة والضمنية، بشكل يساعد في الخروج بمخرجات تحقق هذه القفزة النوعية والواعدة لبلد لا يمتلك من الموارد إلا ما إستجد من نفط وغاز قابل للنضوب، أضف الى ما تم استهلاكه من بيئته.
فلا بد من الاستفادة مع المعرفة الضمنية المكتنزة داخل عقول الكبار، بشكل لا ينهي كبير السن سائقاً لسيارة أجرة فقط لأنه بلغ سن التقاعد. فالعالم بدأ بالعودة إلى كبار السن كمستشارين وخبراء. والمعرفة حلقة متصلة، والعقل البشري قادر على تقديم الكثير مما لم نتوصل إليه أو ما قد يفوتنا من معرفة ومعطيات قد تساعد في ابتكار أو إبداع ما قد يكون مفيداً.