إن غلبة اللغة بغلبة أهلها وإن منزلها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأممابن خلدون

تميل الصين، بشكل واضح، نحو النزعة الثقافية الانفتاحية على العالم العربي سعياً منها لإعادة إحياء طريق الحرير اقتصادياً وثقافياً وسياسياً، وتفعيل التعاون السلمي المشترك. ويُترجم هذا الانفتاح بإبرام اتفاقيات ثنائية تعزّز التلاقح الثقافي، وهو سلوك حضاري قائم على التبادل والتآزر بين شعوب تختلف في الفكر واللغة والثقافة وتتّفق من حيث البعد الإنساني والإبداعي. تلقّف مركز اللغات والترجمة في الجامعة اللبنانية هذه الفرصة لاستحداث إجازة في اللغة الصينية ابتداءً من العام الجامعي 2015 - 2016 بدعم من السفارة الصينية في لبنان، مدركاً أن الاهتمام باللغة الصينية وبالثقافة الصينية وبالانفتاح العلمي واللغوي على الصين ضرورة ملحّة في عالم الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم.
يأخذ الجانب الثقافي حيّزاً مهماً في تعلّم اللغة. وما اللغة إلّا وعاء الثقافة وانعكاس للمجتمع الناطق بها بكلّ جوانبه. ومن يرغب في إتقان اللغة لا بدّ له من أن يحيط بحضارة اللغة إحاطة كافية، وأن يتعرّف إلى قيمها ومهاراتها وعاداتها وفنونها واقتصادها وسياستها تعرّفاً كافياً. إنّ هدف الإجازة في اللغات الحيّة التطبيقية - لغة صينية ليس تدريس الثقافة بذاتها، بل تدريس اللغة من خلال المحتوى الثقافي. تحقّق البرامج المعتمَدة في المركز هذه الغاية، إلّا أن التدريب على الاتّصال اللغوي لا يتم بشكل مُتقن إلا من خلال الاحتكاك باللغة وإيجاد نقاط تماس معها في الحياة اليومية. من هنا تبرز أهمية المنح التي تقدّمها جمهورية الصين الشعبية مشكورةً لطلاب المركز. يستفيد طلاب قسمي الترجمة واللغة الصينية من منح جزئية أو كاملة للسفر إلى الصين، إمّا خلال عطلة الصيف للمشاركة في المخيّم الصيفي، وإمّا لقضاء فصل دراسيّ كامل في مرحلة الإجازة تعادل جميع أرصدته. والإقامة في الصين ضرورة أكثر منها ترفاً لما تعود به من فائدة أكاديمية ومسلكية ونفسية على الطلاب الموفدين. يعبّر هؤلاء الطلاب عن امتنانهم للفرصة الثمينة التي تُعطى لهم بواسطة معهد كونفوشيوس للانغمار في الثقافة الصينية الثرية بتنوّعها وعراقتها. وهم ينظرون نظرة إعجاب وتقدير إلى الشعب الصيني الذي استطاع، من خلال الحسّ الجمعي والعزم والثبات، أن يحوّل مجتمعاً مشرذماً ضعيفاً أنشب الاستعمار والإقطاع أظافره فيه إلى قوّة عُظمى مزدهرة، وإلى مجتمع آمن مستقرّ يحمل معاني الإنسانية الحقيقية، وإلى كيان اقتصادي صلب يرسم سياسات تطويرية قوامها الإصلاح والانفتاح، وإلى دولة جبّارة قادرة على تسيّد العالم. طاب للطلاب العيش في بلاد مترامية الأطراف حتّى أنّ بعضهم آثر البقاء لفصل دراسي إضافي وأجّل نيل الإجازة إلى العام التالي. ساحوا في البلاد، واحتكّوا بأهلها، واختبروا هناء العيش، واستفادوا وأفادوا. والأهمّ من كلّ ذلك أنّهم عادوا إلى لبنان بذهنيّة أكثر انفتاحاً وبخبرة أغنت شخصيتهم وزادت من ثقتهم بأنفسهم. كثيرون هم الطلاب الذين عبرّوا عن رغبتهم في العودة إلى الصين لمتابعة دراساتهم العليا أو لإيجاد عمل يسمح لهم بالإقامة الدائمة هناك.
نتلمّس حماسة الطلاب لتعلّم اللغة الصينية واختبار الحياة الصينية البسيطة بعفويتها والغنية بتطوّرها التكنولوجي والهندسي والفني والأدبي والعلمي. والإقبال على تعلّم اللغة الصينية خير دليل على ذلك. إذ شهد قسم اللغة الصينية في المركز ارتفاعاً كبيراً في عدد الطلاب. نشير هنا إلى أنّ مركز اللغات والترجمة هو المؤسّسة التعليمية العالية الوحيدة في لبنان التي تمنح إجازة في اللغة الصينية كلغة حيّة تطبيقية بمعدل 1700 ساعة تدريس فعلي للغة الصينية موزّعة على ستة فصول، تُضاف إليها مواد أخرى مرتبطة بإدارة الأعمال والتسويق والتجارة الدولية.
يصل طلابنا إلى الصين وفي جعبتهم مخزون لغويّ ومعرفيّ مهمّ حصّلوه في المركز بفضل مجموعة من الأساتذة الموفدين من الصين بواسطة مكتب اللغة الصينية الوطنية (خان بان). وهؤلاء الأساتذة خير سفراء للصين لما يتمتّعون به من نزاهة وضمير مهنيّ وحسّ إنسانيّ وانضباط وصدق في التعاطي. نجح الأساتذة الصينيون في نقل مهاراتهم وقيمهم إلى طلابنا ونسجوا روابط إنسانية معهم، وأعدّوهم خير إعداد، وحثّوهم على المشاركة في جميع النشاطات والمسابقات التي تنظّمها كل من السفارة الصينية في بيروت ومعهد كونفوشيوس والكتيبة الصينية العاملة ضمن إطار قوات الأمم المتحدة لحفظ الأمن في جنوب لبنان ومركز اللغات والترجمة. وغالباً ما تكون حصة الأسد من الجوائز من نصيب طلاب المركز الذين برهنوا على أن قسم اللغة الصينية هو قصة نجاح يُحتذى بها.
مركز اللغات والترجمة هو المؤسّسة التعليمية العالية الوحيدة في لبنان التي تمنح إجازة في اللغة الصينية كلغة حيّة تطبيقية


من جهة أخرى، وتطبيقاً لاتفاقيات التعاون في مجال التبادل الطلابي بين الجامعة اللبنانية وجامعة زيهجيانغ للعلوم الصناعية والتجارية (Zhejiang Gongshang University)، يستقبل المركز سنوياً عشرة طلاب لإتقان اللغة العربية والترجمة ولتعلّم اللهجة اللبنانية في مرحلتَي الإجازة والماستر. يمضي الطلاب الصينيون عاماً دراسياً كاملاً يسمح لهم بالتعرف على الثقافة اللبنانية عن كثب من خلال الاختلاط بزملائهم اللبنانيين وعائلاتهم، وبالتكيف التدريجي، وبفهم نظرة أي مجتمع إلى مجتمع آخر مختلف عنه كل الاختلاف. بينهم وبين لبنان نشأت قصة حب عبّرت عنها الطالبة قوه شوجبن (بسمة) في مقال عنونته «الشمس لن تغيب في بلد الأرز» ونشره موقع «AL-Nidaa.com»: «عند إقلاع طائرة العودة إلى الصين، خفق قلبي وسرح نظري من خلال النافذة إلى المباني المصطفة حيث تشعّ أضواء الشارع. قبل تسعة أشهر، كنت في لبنان أتطلّع إلى العودة لوطني الأم، لكن بعد عودتي، أنا الآن أشتاق إلى لبنان. فقد استوطنت في ذهني ذكرياتي الجميلة هناك إلى الأبد... في البداية شعرتُ بالوحدة والغربة والحزن بعد وصولي إلى لبنان بسبب البيئة الغريبة عني والمسافة البعيدة عن أهلي. لكن كلّما نظرت إلى المغيب، تلاشت كلّ هذه المشاعر السلبية وانزاحت همومي. رافقني المغيب طيلة وجودي في لبنان، وكان شاهداً على اللحظات التي تمتّعت بها، وكان شاهداً على نموي وكيف بدأت أعتمد على نفسي عندما واجهتني الصعوبات، وكيف تعلمت أن أجد وأخلق التفاصيل الجميلة في الحياة العادية وأقدّر الحياة الراهنة... أنا الآن في الصين، أستحضر ذكرياتي في لبنان مع شعبه ومناظره الخلّابة ومغيبه، وحتى في أحلامي، هذه الذكريات حاضرة. وأتحدّث عن لبنان لأهلي وأصدقائي بسعادة كبيرة، واعدة إيّاهم باصطحابهم إليه في زيارة».
لا بد في النهاية من أن أتوجه باسمي وباسم أساتذة مركز اللغات والترجمة بأحرّ التهاني إلى الشعب الصيني الصديق بمناسبة اليوم الوطني وأن أشكر جميع الشركاء الذين أسهموا في إنجاح قسم اللغة الصينية من خلال تأمين الأساتذة وتقديم المنح الدراسية للطلاب وتعزيز التبادل الثقافي. الشكر موصول لسفارة الصين في بيروت لدعمها المستمر لمركز اللغات والترجمة ولهبة الكتب التي بلغت 7000 كتاب أسهمت في تعزيز مكتبتنا. كل التمنيات بالازدهار والتقدم لجمهورية الصين الشعبية.
* مديرة مركز اللغات والترجمة
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
الجامعة اللبنانية