تُقام كورسات وتدريبات إعلاميّة وتوجيهات لتستمر إسرائيل بالصورة التي صنعتها لنفسها على أنها الديموقراطية الوحيدة، والبكّاءة، التي تعاني وتتألم وغير ذلك. وجهت وزارة الدفاع الإسرائيلية المؤثرين، ربما عن طريق تدريب أجراه نيف هوريش، الجندي في جيش دعاية، -لاتباع عشرة بنود في التواصل مع الخارج، مع التركيز على الشبكات الاجتماعية أبرزها: إظهار الضعف، والتركيز على المدنيين وليس الجنود، والتحدث عن الأطفال وكبار السن والكلاب، وإظهار الغرب كهوية إسرائيلية، وتجنب الجدال.ما تفعله ماكينة الإعلام الغربية، التي صارت اليوم دعاية للصهيونية فقط، هو ما سلف تماماً: أخبار زائفة أعلنها النتن ياهو عن قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وكررها الأبله بايدن عشرات المرات، ما دفع إلى جريمة كراهية بحق طفل فلسطيني في أميركا. صورة لكلب محروق في عيادة بيطرية أُعدت عبر برنامج الذكاء الاصطناعي أظهروها على أنها جثة طفل، وغير ذلك. ما تتبناه معظم وسائل الإعلام الغربية، وقد صارت معروفة، وكذلك معظم الأنظمة السياسية هناك، يبدو إكمالاً للمدرسة التي أنشأها جوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازي، باعتماد شعار «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس».
مثل غوبلز، تقوم معظم وسائل الإعلام الغربية وتطبيقات الميديا (على رأسها فايسبوك) بالتحكّم في كلّ مصادر الأخبار وتصنيفها وما يجيء إلى جانبها من تحريضات، مع الاعتماد على التكرار. إستراتيجيات غوبلز، في هذه الحالة، لم تسقط مع النازية، بل ما تزال تُحدَّث عبر السياسيين الشموليين، مع مراعاة التطوّر التكنولوجي والشبكات الاجتماعية الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي أيضاً. ما يجعل معظم وسائل الإعلام الغربية، بما في ذلك الميديا، وسيلة دعاية للصهيونية، ولتبرئتها أمام العالم، وترمي كل من يقف في وجه الصهيونية بالتهمة الكيتش «معاداة السامية»، هل كان آخر من اتُهم كريم بنزيما، أم الكاتبة عدنية شبلي؟
ثمة قراءات ضرورية اليوم تُفهمنا السياق التاريخي للسردية الصهيونية، أهمها: دراستها مقارناتياً مع النازية. هذه المقارنة، على كل حال، ليس هدفها إجراء مطابقة أو مماثلة بين الأيديولوجيتين أو النسقَين الفكريَّين، إنما إبراز الرؤى المشتركة على كل المستويات، ولا سيما المعرفي والفكري، وسواء في الإجراءات والممارسات، أو في المنشأ والنصوص المؤسسة والممارسة التنظيمية الاجتماعية، وما يترتب على ذلك من مشروعية إدانة الصهيونية من منظور إدانة النازية نفسه، وما يترتب على ذلك أيضاً من أن الصهيونية نفسها معادية للسامية.
المتخصص في الصهيونية، د. عبد الوهاب المسيري، بدأ اهتمامه بالأبعاد الحضارية والمعرفية للظاهرة الصهيونية منذ أوائل السبعينيات، حين وضع كتاب «نهاية التاريخ، مقدمة لدراسة الفكر الصهيوني»، تناول فيه أطروحة نهاية التاريخ وبيّن مركزيتها في الفكر الغربي الفاشي، الصهيوني والنازي، كما بيّن العلاقة بين الأيديولوجيتَين على المستوى المعرفي. ثم عاد إلى القضية مرة أخرى عام 1980 بكتابه من جزأين «الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة»، وعمّق فيه البُعد المعرفي والحضاري لدراسته للصهيونية، كما أشار إلى ضرورة دراسة الظاهرة النازية بالطريقة نفسها بحيث يُنظر إلى كل من الأيديولوجيتين باعتبارهما جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الفكر الغربي والحضارة الغربية، وقد فعل ذلك في دراسته «الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ».
بادئ ذي بدء، ثمة موضوع لم يُبحث بالشكل الكافي، وهو تورّط بعض أعضاء الجماعات اليهودية (من الصهاينة وغير الصهاينة) في علاقة تعاون وثيقة مع النازيين. في الحقيقة، بُحث ذلك في كتب عدة أهمها «الصهيونية في زمن الديكتاتورية» لليني برينر، و«الصهيونية أثناء الهولوكوست، توظيف الذاكرة كسلاح في خدمة الدولة والأمة» لتوني غرينستاين، وسوف نجيء على ذكره فيما بعد. بيّن ماريك إيديلمان (أحد قواد تمرّد جيتو وارسو)، في حديثه مع مجلة هآرتس عام 1943، أن الأبطال الحقيقيين (الذين حاربوا ضد النازية) كانوا أعضاء حزب البوند، واليهود المعادين للصهيونية. وكان كارل كاوتسكي قد حذر من الآثار الضارة للصهيونية التي توجه اليهود في الاتجاه الخاطئ (الاستيطان في فلسطين) في وقت يتقرر مصيرهم في أوروبا وألمانيا.
يقرر المسيري أن النازية والصهيونية ليستا بأي حال انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة بل يمثلان تيارين أساسيين فيها، ويعتبر كليهما تعبيراً عن حداثة منفصلة عن القيمة (value free modernity).
ثمة مجموعة من الأفكار المشتركة تتقاطع بين الرؤيتين النازية والصهيونية تشكل الإطار الحاكم لكل منهما، منها: القومية العضوية والتأكيد على روابط الدم والتراب، وهو ما يؤدي إلى استبعاد الآخر (الشعب العضوي المنبوذ)، كذلك تتقاطع الأيديولوجيتان في النظريات المعرفية، وتقديس الدولة، والنزعة الداروينية النيتشوية، وفق تسمية المسيري. يُضاف إلى ذلك التماثل البنيوي الظاهر في الخطابين، فكلاهما يستخدم مصطلحات القومية العضوية مثل «الشعب العضوي (فولك)»، و«الرابطة الأزلية بين الشعب وتراثه وأرضه» و«الشعب المختار» (قال هتلر من قبل إنه لا يمكن أن يكون ثمة شعبان مختاران). أما الخطاب الدارويني النيتشوي (يوجد فرق بين الفكر النيتشوي الذي ساد في أوروبا وبين فلسفة نيتشه التي وضعها في كتبه)، فتستخدمه الأيديولوجيتان كخطاب مبني على تمجيد القوة وإسقاط القيمة الأخلاقية.
كان حاييم كابلان قد سجل، وهو صهيوني كان موجوداً في جيتو وارسو، أنه لا يوجد أي تناقض بين رؤية الصهاينة والنازيين للعالم فيما يخص المسألة اليهودية، فكلتاهما تهدف إلى الهجرة وترى أن اليهود لا مكان لهم في الحضارات الأجنبية. كذلك، فقد حذر هاينريش فريك اليهود من فكرة الشعب العضوي التي يدافع عنها النازيون والصهاينة، وعرّف كلاً من النازية والصهيونية بأنهما حركتان حوّلتا النزعة الأرضية (الارتباط بالأرض) والدنيوية (الارتباط بالدنيا) وهما من الأمور المادية، إلى كيانات ميتافيزيقية، أي إلى دين. ومثل فريك فعل فيلي ستارك، وغيرهما. تشابه آخر بين الأيديولوجيتين يظهر في «قانون العودة» الإسرائيلي، الصادر عن الكنيست عام 1950، وطرأ عليه تعديلات عدة. وفقاً لبن غوريون، فهذا القانون هو التعبير القانوني عن الرؤية الصهيونية. وقد قارن كثير من الكتّاب اليهود والإسرائيليون بينه وبين القوانين النازية، يلخص ذلك قول حاييم كوهين (قاضٍ بالمحكمة العليا في إسرائيل): «من سخرية الأقدار المريرة أن تستخدم الأطروحات البيولوجية والعنصرية نفسها التي روّج لها النازي والتي أوحت لهم بقوانين نورمبرج الشائنة، كأساس لتعريف الوضع اليهودي داخل إسرائيل».
حين جاء الإعلان الصهيوني الألماني الرسمي الذي أصدرته المنظمة الصهيونية في ألمانيا 1933 «إعلان الاتحاد الصهيوني بشأن وضع اليهودي في دولة ألمانيا الجديدة»، بعد وصول النازيين إلى السلطة، حدد طبيعة العلاقات بين الصهاينة والنظام النازي بوضوح، كما تبنّت المذكرة النقد النازي لليهود، وأوضحت نقط الالتقاء الفلسفية والنظرية بين الصهيونية والنازية، موضحة أنّ الصهيونية مثل النازية تمزج الدين بالقومية، وتقبل مبدأ العرق، كأساس لتصنيف الأفراد والجماعات، وأعلنت المذكرة أنّ الصهيونية تأمل أن تحظى بالتعاون مع حكومة معادية لليهود بشكل أساسي، إذ لا مجال للتعاطف عند تناول المسألة اليهودية. سوف تمتد العلاقات بين الأيديولوجيتين عبر اتفاقية الهعفراه والمجالس اليهودية ورابطة الثقافة اليهودية وجماعة ستيرن وعصبة الأشداء وغير ذلك. كما يمكن ذكر شخصيات صهيونية تعاونت مع النازية، على رأسها أحد مؤسسي الدولة الصهيونية ألفريد نوسيج، ومردخاي رومكوفسكي، وآدم تشرنياكوف، وحاييم كابلان، وكورت بلومنفلد، ورودولف كاستنر، وغيرهم.
في السياق نفسه، يُعتبر كتاب توني غرينستاين «الصهيونية أثناء الهولوكوست، توظيف الذاكرة كسلاح في خدمة الدولة والأمة»، حسب مقالة نُشرت في الأخبار لسعيد محمد، أدق سجل تاريخي موثق حول موقف الحركة الصهيونية وسياساتها في فترة ما بين الحربين العالميتين. يكشف غرينستاين في كتابه عن حجم التوظيف السياسي الرخيص من قبل القادة الصهاينة لعذابات يهود أوروبا وتعاون قادتهم مع النازية لتدعيم المشروع الغربي بإنشاء دولة يهودية في فلسطين. تطرح دولة الاحتلال بفكرها الصهيوني اليوم سردية الهولوكوست كغطاء أخلاقي لمحاربة كل تشكيك في شرعيتها أو انتقاد لسياستها في التطهير العرقي والفصل العنصري والاستيطان الممنهج. يتبنى ذلك الخطاب الممنهج في الكثير من الدوائر السياسية والثقافية والإعلامية في الغرب، وما تلبث مجموعة «صوت يهودي من أجل السلام» أن تدحضه، وتقول: «مناهضة الصهيونية (إسرائيل) ليست معاداة للسامية» وليست شكلاً من أشكالها.
كل الكتب والدراسات التي ذُكرت يُستنتج منها شيء واحد: إنّ الصهيونية، التي زعمت أنها حارسة الذاكرة اليهودية المرتبطة بالهولوكوست، والتي ادّعت أنها دافعت عنها، هي على كل المستويات، أول معادية للسامية، وأول من يجب اتهامها بذلك. يعاني الفلسطينيون اليوم من ممارسات تماثل تلك التي تعرض لها اليهود من قبل النازية، وترتكب هذه الممارسات الصهيونية الزاعمة أنها وريثة معاناة اليهود طوال تاريخهم.