تروي الأسطورة أن الأب وابنه كانا في متاهة هائلة الحجم، لا يخرج منها عاقل، وأن إيكاروس وصل إلى الشمس فأذابت جناحيه الشمعيين فسقط ومات. وما لا ترويه الأسطورة هو أن الشاب الذي حوصر عدة سنوات حاول أن يكتشف ضخامة سجنه من الأعلى، وأن يتأمّل تعقيده، والجدران المحيطة به. لقد اكتشف في الوقت نفسه الاتّساع المرعب للعالم حوله. ليست المتاهة هي العالم كلّه. ثمة إلى جانبها وفي محيطها مدن، وفي الأعلى شمس، وعلى مقربة بحر، ثمة عالم يحيط بالمتاهة، لم يتوقف في يومٍ من الأيام أن يكون عالماً، لكنه ليس لإيكاروس، لأنه سُلِب منه في لحظةٍ ما، ثم أُدخِل السجن الكبير، السجن المتاهة، المُحاط بتعقيدات وشيفرات. السبيل الوحيد للخروج من هنا لاكتشاف العالم هو الطيران. صحيح أنّ إيكاروس هو صاحب أول محاولة طيران وأشهرها، لكنه في الآن نفسه صاحب أشهر سقطة بشرية، ربما، في التاريخ الإنساني. استلهام إيكاروس، طوال تاريخ الثقافة الإنسانية، بقي في متون الأدب والفن التشكيلي والنحت وسواها. لكن، لم يحدث قط أن خرج إيكاروس من الأسطورة، لو من جزءٍ منها، إلّا في غزة.


في اليوم الأول من طوفان الأقصى، أفاق العالم على مشهد لو اجتمع كتّاب الواقعية السحرية في أميركا اللاتينية كلهم، وعلى رأسهم ماركيز صاحب الفراشات الصفراء الذي ليس في أعماله جملة واحدة لا تستند إلى أساس واقعي. رغم ذلك، لو اجتمعوا كلّهم، لما أمكن سرد مشهد مماثل.
كان المشهد لبشرٍ من غزة، القوات الجوية للمقاومة، يطيرون خارج غزة من أجل القتال. قدرة المشهد على الإدهاش، هي ذاتها القدرة التي تكون عادةً لازمة للأعمال الفنية والأدبية العظيمة، وضرورة المشهد أيضاً، هي مثلها ضرورة الفن كما كتب عنها إرنست فيشر.
ينهض المشهد، مثله مثل أي عملٍ واقعي سحري، على مزجٍ رهيب بين الواقعي والأسطوري. الواقعي هنا هو أنه يحدث، يحدث أمام أعيننا وفي حياتنا، عام 2023، ونراه عبر الشاشات، ونبحث عنه في منصات السوشال ميديا، دون أن نفكر حتى في أي سؤال عن إمكانية حدوثه، وإذا ما صادفنا تحليلاً له، أو كشفاً للحيل التي استخدمتها المقاومة من أجل تحقيقه، لتجاوزنا التحليل لأنه تفسير للماء بالماء، ولأنه غير مجدٍ. العلاقات السببية هنا تصير شيئاً عبثياً، ولأوّل مرة، ربما، يكتفي العقل الذي يقتله الفضول في العادة، بأن يشهد الحدث، يراه، يخزّنه في جمله، ويمرره عبر قنوات اتصاله مع أعضاء الجسد كلها: انظروا إلى ما حدث، لا تسألوا كيف، يكفي أنه قد حدث.
لقد حدث ذلك في حياتنا وشاهدناه بأعيننا المجردة، ولا يمكن لقوة في الأرض ولا في الجسد الإنساني أن تخرجه من ذاكرتنا البصرية والشعرية.
ينهض المشهد، إذاً، على مزج الواقعي بالأسطوري، وتواشج الحقيقي والفانتازي. الأسطوري هنا، هو أيضاً واقعي. الأسطوري هنا هو تحطيم للأساطير العسكرية. هو الواقع نفسه.
كان يمكن لأولئك الذين يطيرون، وهم من لحم ودم، مثلنا (هل هم كذلك فعلاً؟) أن يجنحوا، كما فعل إيكاروس، لاكتشاف ضخامة المتاهة التي كانوا فيها ولتأمل تعقيد جدار الفصل حولها. جدار من مليوني متر مكعب من الخرسانة والحديد، لو وُضع في خط متصل لوصل إلى أستراليا، جدار بطول 65كم، 6م فوق الأرض و6م تحتها، على طول حدود غزة، ويمتد إلى البحر. تقبل الواقعية السحرية، كما يقول تودوروف، وجود الواقع والطبيعي والعادي لتستطيع فيما بعد دحض ذلك كله. والواقع الطبيعي والعادي في غزة، المدينة المُحاصرة والملفوفة بجدار فصل، رغم كونه ليس واقعاً طبيعياً وعادياً، ولكن العالم كله عامله على أنه كذلك. مدينة محاصرة، مثل المتاهة لا يمكن الخروج منها، عوملت كأنه من الطبيعي أن يكون واقعها كذلك. لكنّ فعل المقاومة، مثله مثل أعظم عمل أدبي في خيال أي قارئ، قَبِل وجود هذا الواقع الطبيعي والعادي (في نظر العالم) لدحضه كلّه. وللقول إنه يمكن للغزيين الطيران، مثل إيكاروس، لا لعقدة طموحه في اكتشاف ما حوله، بل لأنهم يعرفون ما حولهم، ولأنّ ما حولهم هو لهم ويريدون استعادته.
هذه المرة لم ينزل سقراط الفلسفة من السماء إلى الأرض (إذا عاملنا العبارة حرفياً)، بل رفعت المقاومة الفلسفة من الأرض إلى السماء، ثم أنزلتها في مكانٍ آخر، مكان لها، غابت الفلسفة فيه زمناً طويلاً. تقف حدود الواقع على حدود فكرنا ووعينا، لكن للعقل الغزاوي أهلية وأحقية وشرعية في اختراق هذه الحدود وتوسيعها والتسلل إلى مجال عالم آخر، عالم كان لنا وسُلِب، فصار عالماً ليس لنا.
تشكل الواقعية السحرية، وطيران المقاومة جزءٌ لا يتجزأ منها، قطيعةً مع العالم الذي هي فيه، وبروزاً مفاجئاً لما يمكن قبوله في قلب الشرعية اليومية التي لا تتغير. يمتزج هنا، أيضاً، التفسير الطبيعي للأحداث والتفسير الخارق للطبيعة. أي القارئ (المُشاهد والشاهد هنا) يشكك في صحة الخبر عن العالم، وفي إمكانية تحقيقه، لكنه يظل في الوقت نفسه غير قادر على تفسيره.
الواقعي والأسطوري شيء واحد. تمحى في المشهد الحدود بين الأحياء والجماد وتكتسب الأشياء خواصاً وقدرات، ونشهد فيه واقعاً سابقاً على مبادئ العقل والمنطق والقوانين، يبان كأنه حدث في حلم لسيلفادور دالي ثم رسمه في لوحة.
ثمة قول عن الواقعية السحرية في الأدب ينطبق على مشهد المقاومة: إنها تعيد صوغ الواقع على نحو مختلف، مازجة بين الحقيقي والمتخيل والواقعي والفانتازي، وهي حين تفعل ذلك، أي بدمجها الواقع في الفانتازيا، إنما تتحدى القيود، كما استخدمها الخطاب الغربي.
على ذكر الخطاب الغربي، الفلسفي منه على وجه الخصوص، فقد سقط في الامتحان كما كل مرة. تلخص مجمل الخطاب الغربي (وغير الغربي في الوقت نفسه) هذه الأيام كلمات الفرنسي موريس بلانشو: «مهما يحدث، أنا في صف إسرائيل، أنا في صف إسرائيل عندما تعاني، أنا في صف إسرائيل عندما تعاني نتيجة ابتلائها الآخرين بالمعاناة».
يعيد المشهد الفلسطيني في الأيام الأخيرة و«طوفان الأقصى» ضرورة الانتباه إلى الرأي العام وإلى الخطاب الفلسفي، وإلى ضرورة التنظير أيضاً. فمثلما على كل فلسطيني أن يروي قصته، بكلمات إدوارد سعيد، عليه أيضاً أن ينتبه كيف تُروى قصته. (واحد من الأمثلة السخيفة أن جاستر بيبر نشر صورة للدمار في غزة وكتب أنه يتعاطف مع إسرائيل، ما لبث أن حذف منشوره عندما صحح له متابعوه خطأه، ومثله فعلت جيمي لي كيرتيس حين نشرت صورة لأطفال فلسطينيين ينظرون برعب إلى السماء، ظناً منها أن الصورة لأطفال آخرين في الكيان).
الانحياز في الخطاب، كما هو واضح في كلمات بلانشو السابقة، يعبر عن دعم مطلق ولا مشروط، كما يعوق نشوء أي التزامات تجاه غير الصهاينة، أو التماهي المحتمل مع هؤلاء مهما كان آنياً. فهو يتعاطف مع الإسرائيليين بكل وضوح، ليس فقط عندما تعاني إسرائيل العدوان، بل يتعاطف معهم حتى عندما تبتلي إسرائيل الطرفَ الذي يمثل الآخر بالنسبة إليها بالمعاناة، وهو موقف لا يمكن وصفه إلا بالضلال.
ثمة فكرة أخرى عند الفيلسوف الفرنسي إيمانويل لِفيناس، تلتف حولها مجموعة من الفلاسفة الغربيين، وأجوبة لفيناس أكثر من مرة ألمحت إلى «أن بلاغيات اليهودي بوصفه «الضحية» الأبدية الفريدة، أي وضع الضحية اليهودية يتحوّل إلى هوية متجاوزة للزمن (وبالتالي غير مسيّسة)، بدل أن تكون ناتجة عن حالة ضرر تاريخية محددة، وبالتالي يجري دمج المعتدين ببعضهم حيث يتماثلون ويُصنَّفون جميعاً ضمن فئة المعادين لليهود، ثم يُصنَّف اليهود كلهم بعد الكارثة، وبمفعول رجعي، ضمن فئة الضحية، وهو ما يجعل كل اليهود المعاصرين، سلفاً، ضحايا دائمين». على أن نقاشاً مثل هذا يتطلب العودة إلى مؤلّف البروفسور زاهي عنبرة زلوعة، بعنوان «الفلسفة الأوروبية والمسألة الفلسطينية ــ أبعد من اليهودي والإغريقي» (continental philosophy and the Palestinian question, beyond the jew and greek, 2017). على الطرف الآخر، ليس الخطاب كله على هذا النحو، إذ قال الفيلسوف الإيطالي الراحل جياني فاتيمو، محرر كتاب «تفكيك الصهيونية.. نقد الميتافيزيقا السياسية» سنة 2014: «لو كان الأمر بيدي، لدعوت إلى اكتتاب عالمي لشراء أسلحة للفلسطينيين لوقف الإسرائيليين الذين يقومون بذبح جماعي لهم».
ضرورة المشهد إذاً، مثلها مثل ضرورة الفن، وفي الوقت نفسه تُبرِز ضرورة التنظير، والانتباه إلى التنظير الغربي. تصدى لذلك من قبل زاهي زلوعة وإيلان بابيه وآخرون. لكنّ المثال الذي سلف عن «خطأ» جاستن بيبر وجيمي لي كيرتيس، وغيرهم كثر، يفرض مجدداً شيئاً آخر يجب أن يخترق حدود هذا الواقع الخطأ بمجمله، وحدود متاهة الواقع وسجنه الكبير: المقاومة تطير.