«رأيتُ أفضل العقول في جيلي وقد دمّرها الجنون،يتضوّرون، عراةً، ومهسترين» عواء - آلن غينسبرغ.

«تنفيس عن شكوى من الحياة،
شخصيّة، لا معنى لها بالمرة
شيء من غمغمة بإيقاعات» الأرض اليباب- ت. س. إليوت.

شيء من الصحف والمنظمات
افتتحت اللوموند واحداً من تقاريرها على النحو التالي: «نحو 6 ملايين طفل، وفقاً لتقديرات اليونيسيف، ولدوا في سوريا أثناء الحرب المستمرة منذ 10 سنوات، هم يمثلون الآن جيلاً لم يعرف في حياته سوى التفجيرات والعنف وهشاشة الحياة».
أجرى الصليب الأحمر دراسة استقصائية عام 2019 لـ16288 شخصاً، تراوح أعمارهم 20 و35 سنة من 16 بلداً مختلفاً. تعطي الدراسة صورة مجملة عن آراء أبناء جيل الألفية بشأن حقوق الإنسان والحرب والقانون الدولي: يرجح نصف أبناء الجيل اندلاع حرب عالمية ثالثة في مدة حياتهم. %54 منهم يرون أنه من الممكن وقوع هجوم نووي في العقد المقبل. 37% منهم يرون أن التعذيب يُعد مقبولاً وسط ظروف معينة. بارقة أمل: يعتقد %75 من أبناء الجيل، «اعتقاداً راسخاً» أنه يمكن تجنب معظم الحروب، وأن الحرب «يجب أن يكون لها حدود».



جيل ضائع
في كتابه «وليمة متنقلة» المنشور بعد موته، يكتب هيمنغواي أن عبارة «الجيل الضائع» أطلقها مالك المرآب الذي كانت جيرترود شتاين (مستشارة هيمنغواي ثم عدوته الأدبية) تضع سيارتها فيه لإصلاحها. أخفق الميكانيكي الشاب في إصلاح سيارة شتاين، صرخ مالك المرآب في الفتى: «أنت من الجيل الضائع». وأضافت شتاين كما يروي هيمنغواي: «ذلك ما أنت عليه، وهذا ما أنتم كلكم عليه، جميعكم أيها الشباب الذين شاركوا في الحرب، أنتم جيل ضائع».

على اليبس
يرد في «منطق الطير» لفريد الدين العطار النيسابوري جملة تقول «على اليبس قدتُ سفينتي». حين تُجتزأ الجملة من سياقها فتصبح، وحدها، إيجازاً لحكاية بضع ملايين من الناس لم يقودوا سفنهم على اليبس، بل قيدت سفنهم على اليبس، هذه سرديّتهم الكبرى. غير الاختلاف في مَن يقود هذه المرة ثمة اختلاف آخر؛ إن الإيمان أو الانتماء أو الأمل أو التفاؤل (فليكن ما يكون، وأياً تكن تسميته فلتكن) الذي رافق الأوائل حين قادوا أو انقادوا، قد مات معهم، ولم يبقَ غير اليأس للأجيال المتعاقبة.

مرة أخرى
«رأيتُ أفضل العقول في جيلي وقد دمّرها الجنون، يتضوّرون عراةً ومهسترين». وأنا، أيضاً، بكلّ ما يحمله الفعل «رأى» من معنى، رأيت عقلَ جيلي وقد دمّره الجنون. يمرّ الزمن على قلبه كجنزير الدبابة، كمدرّعة تنهش جلدة الرأس. وفي لمح البصر تنتهي الأشياء كلها. «تنتهي الطفولة والصمت والأحلام، وتحل محلها الكآبة والصرامة وصمت الفجيعة». ما الذي تعنيه كلمة جيل على أي حال؟ ليس مهماً. الجيل يعني الفجيعة، يعني الخسارة، ويعني أن مزيداً من العمر يعني مزيداً من المواجع والفجائع، ويعني أن لا شيء إلى أمام، لا شيء إلى خلف، ولا شيء الآن وهنا. جيلٌ من هيولي وفي الهيولي، قمرٌ أسود ونجوم استحالت غباراً، والشمس كرأس عود الكبريت، تشتعل قليلاً جداً، ثم تُصيَّر رماداً. الجيل الذي لا أرض تحمله، ولا سماء تستقبله، ولا بحر يأخذه بين أمواجه يطبطب عليه، ولا هيئة أمم، ولا منظمات دولية وهيئات وجمعيات ومؤسسات، ولا حقوق إنسان، ولا جينيف، ولا أحلاف، ولا مبعوثين أمميين. على أنجيلينا جولي هذه المرّة أن تتبنّى جيلاً بأكمله. ذلك هو تدخّل العناية الإلهيّة الوحيد، وكذلك البشريّة.
ما يثير السخرية، هو أنّ العلماء والباحثين عكفوا وكرّسوا بعض سنوات حياتهم للخروج بنظريات عن «أجيال الحرب». منذ الجيل الأول حتى الجيل السادس أو السابع وبذلوا جهداً رهيباً من أجل التنظير لهذه الأجيال. ولكن: «لن تجد أي نظرية حقيقية لأجيال أخرى سواء خامس أو سادس أو سابع موثقة علمياً وأكاديمياً بالجامعات المُعترف بها دولياً بذات الشأن وتُدرس، ولا بالأكاديميات الإستراتيجية العسكرية بشكل منهجي، عدا أفواه المتحدثين بمنطقتنا العربية» يقول واحد من الباحثين في هذا الخصوص.
أما الأجيال الأخرى، الاجتماعيّة، فعلى اليبس تُقاد بهم السفينة المحشورين فيها. جيل مغترب، تقريباً في المنطقة العربية كلها. جيل عاجز في علاقاته مع اللفياثان الضخم المرعب، أي الدولة والأحزاب والمؤسسات العائلية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. تسيطر الأخيرة على حياته، وتُعمله في خدمتها عوض أن تعمل في خدمته. جيل مهدور، والهدر في لسان العرب هو: «ما يُبطل من دم أو غيره»، أي ما يُستباح ويمكن سفحه في حالة من زوال حرمته التي تحصنه ضد التعدي عليه. أما الفعل، فيعني بطل وفقد أحقيته، أي يمكن إزالته بحسبانه فاقداً للحق الذي يلزم باحترام حدوده وعدم التعرض لكيانه. ويعني مفهوم الهدر أيضاً الإباحة وسحب القيمة وسقوط المكانة والوزن. والحديث عن جيلٍ مهدور ومقهور ومغترب حديث طويل، الاستماع إليه على لسان حليم بركات ومصطفى حجازي أفضل من الاستماع إليه في هذه المقالة.

قصة موت معلن
في اليوم الذي كانوا سيقتلونه فيه، استيقظ الجيل في الساعة الخامسة والنصف صباحاً: أين نحن الآن؟ وفي ضوء ذلك، وجهة نظر، حقيقة واقعة، منطقي إلى ما لا نهاية، هذه بعض عناوين فصول كتاب «عندما تغيّر العالم». لكن، هل يتغير العالم؟ أي هل يمكن القول إنّ جيلاً ما من أجيال البشريّة لم يكن جيلاً ضائعاً؟
كتب أحمد بن فارس، صاحب «مقاييس اللغة» إلى بديع الزمان الهمذاني يشكو إليه فساد الزمان. وردّ الهمذاني: «الزمان ما فسد، لكن القياس قد اطرد، ولا أظلمت الأيام إنما امتد الظلام». من الجيل الصامت إلى «البومرز» إلى الجيل المنسي X ثم Y ثم Z وصولاً إلى alpha: مات الإنسان في الخطاب الفلسفي.

مولد التراجيديا، مثالب الولادة
مرة أخيرة: «رأيتُ أفضل العقول في جيلي وقد دمّرها الجنون، يتضوّرون عراةً، ومهسترين». وُلِد الجيل: قبل الحرب، في الحرب، ما بعد الحرب. مأساة، هيكلها معقد، وتمثّل الحوادث التي تثير الخوف والشفقة. «أن تكون حياً، فجأة هزّتني غرابة هذه العبارة، كأنها لا تنطبق على أحد». والمقالة هذه، مثل جيلي، دمّرها الجنون، لأنني واحدٌ من الجيل.