في مقتبل أعمارنا يلقّننا آباؤنا أول حقيقة عن ذواتنا: «من أنت؟»، باسمٍ نجاوب، اسمٍ نعرفه كالهواء، نتنفّسه بدون تفكير. يأتي الاسم كحقيقة لا جدال فيها. هكذا نعرف أول فرق بين اليقين والشك، ونمارس هذه المعرفة بأن نردّد أسماءنا كلما أردنا أن نكشف عن ذواتنا للآخرين. على هذا الأساس يمنحنا آباؤنا هوياتنا الشخصية.«الأسامي كلام. شو خص الكلام؟ عينينا هن أسامينا» ولكن نهاد وديع حداد والتي تُعرف باسمها الغنائي فيروز تهدم في أغنيتها تلك الحقيقة الأولية التي نعرفها عن أنفسنا. تقول إن الأسماء هي مجرد كلام أجوف، وإن أعيننا هي التي تفيض بحقائق عن أنفسنا، وهي أيضاً القادرة على أن تنطق بالإجابة عن هويتنا وليس الأسماء التي اختيرت لنا سواء بعشوائية أو بإقرار منظّم. ومن بين احتمالات عديدة متنقّلة بين اللغات، والصفات، والأشعار، وأبطال الروايات المفضّلين، ونجوم السينما، والأحبّاء القدامى ينتهي الأمر باختيار اسم واحد فقط. فيثير ذلك تساؤلاً فلسفياً داخل نفس كل طفل عن مبعث اختيار والديه لاسمه، ليكون علّة أول شكّ يستشعره بدون أن يعي أنه قد يأتي يوماً من الأيام ولن تتّسق هويته مع «وجود» اسمه.

الاسم كهوية
إن الهوية تشترط ألا يعيش الإنسان منقسماً على نفسه. فالهوية هي الخصوصية، والتجربة الشخصية التي لا تُمنَح. هي وعي الإنسان بذاته. أما إذا فرضت على الشخص هويته فيمكننا الإدراك، منذ اللحظة الأولى، أن لهذا الشخص هوية زائفة حيث لا هي تمثل صاحبها ولا هي تطابق معه إنما مجرد قناع يرتديه. من يُفرض عليه هوية يفقد القدرة على التعبير الصادق فيحيا حياة مزدوجة. يحقق هويته المزيفة التي سقطت عليه ولكنه في الآن عينه مغترب عن نفسه وعن واقعه بالضرورة.


إن الاسم هو أحد مكوّنات الهوية التي تمثل وجود الشخص بكل ما يمثله من جسد، ووعي، وأحلام. وباستطاعة الاسم أن يمنح الشخص عنواناً لهويته. فإذا قرّر المرء أن يمحو أثر وجوده فما عليه سوى استبدال اسمه بآخر جديد. إن التسمية هي ما تعرفنا إلى الشيء، هي ما تدلّ على تفرّده. فلا بد لاسم الشيء أن يتلاءم مع خصائصه ليكون معبّراً عنه. على هذا النحو، يحمل الكثير منّا أسماء متعددة، فهناك اسم خاص لكل منّا محصور في دائرة الأصدقاء، واسم آخر تنادي به الأم طفلها\طفلتها منذ الصغر.
وكثيراً ما نسمع في الحي الذي نسكن فيه عن متشرّد لا يعلم أحد اسمه، فنقول عنه «بلا هوية»، ونقصد بلا بطاقة. فهو يمثل «اللاأحد» وتكون المأساة مضاعفة إذا كان بلا أهلٍ، أي بلا نسبٍ، وبدون وظيفة فلا يوجد عنوان لشخصيته، فيضفي التشرد طابعه عليه ونعرّفه كما نعرفه: متشرد.

مدى تماهي الأسماء التي مُنحت لنا مع هويتنا
عندما منحت اسماً لطفلتي كنت قد استحضرت هذا الشعور المفاجئ الذي يغمرني عند كل مرة أنطق فيها باسمي عندما أعرّف نفسي إلى أحد. لطالما تساءلت عن مدى التشابه بين اسمي ونفسي، فكيف لصوت تخرجه الكلمة أن يشبه الشخص الذي يحمل اسمه ذلك الصوت أي تلك الكلمة؟ لعل السبب في تلك الحيرة هو أن الأسماء ليست من اختيارنا بالأساس. فآباؤنا لا يملكون سوى الأمل أن نكون على القدر الكافي لحمل الأسماء التي يمنحونها إياها، لذلك لا تلتصق الأسماء بهويتنا للأبد. يمكن أن نتملص منها ونغيّرها. لأن هويتنا قادرة على أن تضيف إلى الأسماء بعداً جديداً، فيصبح الاسم ذا وقع مختلف على صاحبه، وعلى هويته، وعلى الثقافة التي تستقبله وتتفاعل معه. فالعلاقة بين الاسم والهوية علاقة تبادلية من حيث قدرة كل منهما على إضفاء معنى على الشخص في تواصله مع الآخرين، فمن يحمل اسم عائلة ثرية أو ذات سلطة فاسمه يكتسب قيمة معينة، وعلى النقيض من يولد حاملاً اسماً لا يتماثل مع رؤيته عن ذاته أو يتناسب مع بيئته التي ولد فيها أو أفكاره التي يعتنقها لها يمكن له أن يحمله كل ذلك على إخفاء اسمه والتنصل منه مشهراً اسمه الجديد الذي يعرّف به ذاته. هنا أصبحت لهويته القدرة على أن تضفي معنى جديداً على اسمه.

التخلي عن مارادونا والتمسك بصلاح
دييغو كوستا لاعب كرة قدم برازيلي، أسماه والده دييغو تيمّناً بالأسطورة الأرجنيتني دييغو أرماندو ماردونا الذي يعشقه عشقاً أسطورياً جمهور كرة القدم. يحكي والد دييغو كوستا كيف منعه العداء الكروي بين الأرجنتين والبرازيل من اختيار الاسم الذي يعشقه ويتمناه لابنه دييغو مارادونا كوستا، إذ كان يأمل منذ لحظة ولادته في أن يصبح في المستقبل لاعب كرة قدم عظيماً مثل مارادونا. ولكن ما احتمالات قبول المجتمع البرازيلي المنغمس ثقافياً في رياضة كرة القدم بأن يقبل بطفل يحمل اسماً أرجنتينياً؟ فرأى أنه لا بد من أن يتحايل على الموقف ويطلق على ابنه الاسم الأول فقط متخلياً عن العائلة الشهيرة مارادونا. وبالرغم من أن مارادونا بات اسماً أشهر من أن يُعرّف إلا أن هذه الشهرة قد تتحول من حدثٍ لافت إلى لعنة إذا ما ظهر في ثقافة معادية وبيئة منافسة له، فيتبدل حاله من اسم ساطع إلى شتيمة مكروهة.
وعلى الجانب الآخر من العالم ترصد الإحصائيات زيادة عدد المواليد الذين يحملون اسم صلاح في مدينة ليفربول في إنكلترا تيمّناً باللاعب المصري محمد صلاح كواحد من أشهر لاعبي كرة القدم في إنكلترا الآن. بالرغم من أن اسم صلاح لم يعد رائجاً في الثقافة المصرية نظراً إلى قدمه أي باعتباره لم يعد يواكب صيحة العصر، وكأن اسمه لا يمثل ميزة ودلالة جديدة لدى الآباء المصريين أي كأننا انتهينا من الأسماء القديمة كصلاح، وبالرغم من أن اسمه الأول، محمد، هو الأكثر رواجاً دائماً حيث يُسمى تيمّناً بالنبي محمد كدلالة اعتزاز دينية، ولكن بدخول اسم محمد صلاح إلى أسماء المواليد الجدد في ثقافة المجتمع الإنكليزي فذلك لم يحمل سوى دلالة حب وتقدير لهذا اللاعب، ما يعني فقدانه لدلالته الأصلية في اللغة العربية ومتخطياً الأبعاد الدينية والثقافية وحتى الذائقة (في حال كان اسم المولود صلاح وليس محمد)، حائزاً على دلالة جديدة أكثر عصرية وجمالية. يمكننا أن نقول إن محمد صلاح صنع لنفسه هويته الخاصة وصنع لاسمه دلالة جديدة.

نادني باسمك
تظهر قوة الأسماء عندما تدعو الشخص الذي تحبه باسمه، أو باسمٍ اخترته له، تناديه به بأبعد حدود من الحب والدلال، ما يعكس صورة لعلاقة صلبة ومتينة بينكما. فالإشارة إليه في الحالة هنا، ابتعدت عن الهوية الرسمية العامة، تلك المكتسبة، وانتقلت إلى هوية خاصة صنعتماها بينكما فقط، فتنعكس في التواصل بالعمق الذي ينشأ بينكما. أن تسمي طفلك\طفلتك على اسم أحد من أحبائك المفقودين إحياءً لذكراه، وحباً في إعادة تمثيل وجوده في الأسرة من جديد، هو وعد تمنحه لهذا الصغير بأنه سيصبح محبوباً لديك كأنك عاشرته من قبل وتعرفه حق المعرفة لأعوامٍ بينما هو ما زال ابن يوم. هنالك من يسمي أبناءه بالقبيح من الأسماء خوفاً من الحسد، وإيماناً بأن القبح لا يطاوله الموت والمرض، لأن القبح لا ينقصه ابتلاء آخر يزيد من بلواه فيظن بأن أبناءه تحت حماية تميمة تخفي وجودهم فلا يصيبهم شر. يحدث هذا بخاصة عند الذكور من الأبناء في المجتمعات العربية الذين يولدون أحياء بعد محاولات عديدة من الأجنّة المجهضة أو المواليد السقيمة. وهنالك من يسمي أبناءه تيمّناً بالأنبياء والرسل تعبيراً عن ثقافة دينية راسخة في الوجدان تفصح عن نفسها بوضوح إعلاءً لقيمة الدين في العائلة. وإعلاء لقيمة الحب إلى حد الانصهار والتداخل بين شخصين يظهر في رواية «نادني باسمك» للكاتب أندريه أكمان، والتي تحولت في ما بعد إلى فيلم سينمائي يحمل الاسم نفسه، إذ تحكي الرواية قصة حب بين أوليفر وإيليو الذي يطلب منه أن يناديه باسمه قبل أن يفترقا حتى يبقى كل منهما يحمل جزءاً من ذات الآخر معه. فالأسماء هي لغة بحدّ ذاتها، لغة قادرة على أن تمنح بواسطتها الحب، والأمل، والجمال، والرجاء، والإيمان، والقوة والفخر.

اغتراب الأسماء
أما الاغتراب فهو نقيض الهوية. هو الانقسام على ذاتك. هو أن تكون ما لا ترغب. أن تبتعد عن حقيقتك وتضلّل نفسك في نماذج أخرى لا تشبهك. أن تكون مجبولاً على هوية أخرى لا تمثّلك. قد تغلبنا سهولة أن نكون مغتربين عن أنفسنا بحيث نعيش بوعي منفصل عن ذاتنا. وما هو غريب، واستثنائي، فهو أن يحقق أحدنا هويته ويسعى إلى الاستمرار والترقي. فالحياة تفرض علينا ظروفاً اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية شائكة ومعقدة، وتجبرنا على انتقاء الطريق السهل والخضوع للاغتراب بدون أن نعي. من مظاهر الاغتراب عن الذات تلك الهويات الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي التي تحمل أسماء وصوراً وأحداثاً حياتية وهمية حيث يتواصلون اجتماعياً وفق لهذة الهوية المزيفة. وعلى مستوى آخر هناك الأشخاص الذين يظهرون بهوياتهم الحقيقية، يضعون اسماً وصورة ولكن لا يملكون القدرة على التعبير عن ذواتهم واقعياً ويكتفون بالتعبير عنها افتراضياً حتى إذا انقسمت هوياتهم بين الحياة الواقعية والافتراضية غابت الواقعية وحلّت الافتراضية محلّها.
إن الذين يحملون أسماء محايدة في مجتمع طائفي لهو تأكيد على مقاومة تلك الطائفية. والذين يحملون أسماء تاريخية لهو تأكيد على اتصالهم بحضارتهم. والذين يحملون أسماء من ثقافات مغايرة لهو تأكيد على قيمة المرونة. والأسماء الجميلة هي نوع من مقاومة القبح. وفي اللحظة التي نمنح فيها الأسماء لأبنائنا لا بد أن نختار لهم ما هو جميل. فالأسماء ليست فقط أصواتاً ننادي بها بعضنا البعض وإنما هي إشارات تلتصق بنا دائماً ولا تنفصل عن هويتنا أبداً. ولأن في الأسماء احتمالات للخلود، ومن خلال هويتنا نختار أن تُخلَّد أسماؤنا كهوية بطل أو كهوية مجرم.