يبدو عمل أسرة آل مكمان الموقّرة، ممثلةً بالأب، وبالابن فينس بدرجةٍ أكبر، عملاً سهلاً ويسيراً، وإدارياً، مثله مثل الوقوف على أي شركة أو مؤسسة تصنع «الترفيه». تلتقي بأشخاص، ترأس تجارب أداء، تعلّق على الأجسام البشريّة التي أمامك، العمالقة والأقزام ومربوعي القامة، أصحاب الوزن الثقيل والخفيف، تقول إنّ الساعد يجب أن يكون أكبر، وحركات الشقلبة يجب أن تكون أكثر سرعة وخفّة، وهذا يجب أن يرتدي قناعاً، وذاك يجب أن يكون لونه أحمر. كلّ ذلك يبدو هيّناً، لكنّ العمل الشاق، والهائل، هو أن تصنع قصّة، أسطورة، من كلّ ذلك. أسطورة، في مضمونها، تكاد تشبه الأساطير القديمة، ولا سيّما في المصارعة التي قد تكون أقدم «رياضة» عرفتها البشريّة ومارستها. إنّ الحمل هائل، لأنه يمتدّ، على أقلّ تقدير، إلى قرابة عشرين ألف سنة، منذ الرسومات المحفورة على جدران الكهوف في جنوب أوروبا، إلى التمثال البرونزي لاثنين يتصارعان في سومر، مروراً بالإغريق، ثمّ مصارعة العبيد بعضهم بعضاً حتى القتل لإرضاء السادة الرومانيين (فيلما «Gladiator» و«Spartacus» يرويان شيئاً من هذا)، حتّى اليوم الراهن. ثقل موروث مثل هذا، يحتاج إلى أن يكون قريباً، قدر ما أمكن، إلى ما امتدّ إليه في القرن العشرين، سيما وأنّه تحوّل من رياضة إلى صناعة، ومن شيءٍ يمكن حدوثه في أيّ مكان، إلى مؤسسات واتحادات وشركات، عليها، على الأقل، أن تحفظ بذوره الأسطوريّة والطقسيّة.من هنا، يبدو مكمان الابن، المسؤول عن الـ«WWE»، سواء بالصدفة المحضة أو غير ذلك، قد قام بفعلٍ جيّد. لأنه نهض بالحكايا، واحتفظ بطقسها، والروح الأسطوريّة لها، وعصرنها. قابيل وهابيل، العمالقة اليونانيّون، مشاكسو كلّ الأزمنة، الضعفاء والأخيار والأشرار. صحيح أنّ بعض الحكايا تنطوي على غباء وسذاجة، لكنّ بعضها الآخر يقوم على كلّ العناصر التي تجعل من قصة ما، جيّدة.


في المصارعة الحرّة، الحكاية هي الأسطورة المتحكّمة بكلّ الأشياء وأصغر التفاصيل. فالمصارعة ليست رياضة، ولم يدرك متفرّجو ومشاهدو أحداث ومهرجانات الـ«WWE» ذلك حتى وقت متأخر، أنها ليست رياضة، إنما عرض. وهذا العرض يتمظهر بكلّ ما هو طقسيّ ودراميّ: دخول «أندرتايكر»، والتوابيت المفتوحة، وصراعه مع أخيه «كاين» (قابيل)، الذي نجا من الحريق الذي ارتكبه «أندرتايكر» عن عمد وهو صغير كي يقتل أهله (كما اعترف بذلك لاحقاً)، كلّ ذلك ينطوي على عناصر من الطقسيّة، ومُرفقة بالدراما، إذ ليس ثمة مصارعون، بل مؤدّون، ممثّلون حفظوا أدوراهم وتمرّنوا عليها وأجروا عدّة بروفات. ليست وظيفتهم (أي المصارعون) أن يكسبوا اللعبة، إنما أن ينجزوا الحركات المنتظرة منهم، بكل ما يمكن أن تتضمّنه من تضخيم وتفخيم بلاغي. وهؤلاء الممثلون يعبّرون، على نحوٍ جيّد أحياناً، عن مشاعرهم، وتتبدّى مظاهر تعبيرهم بشكلٍ واضح، وينتقلون من التكنيك إلى أداء حركي نفسي، أمامنا، نحن الجمهور، المستغرق في العرض. بل إنّ التلقّي يأخذ شكل تقمّص وتوحّد مع المؤدي/ الممثل، حتى لو كانت المشاهدة عبر أجهزة التلفزيون أو الإنترنت.
الفرجة هذه، تشبه إلى حدٍّ كبير الفرجة على فيلم أو عرض مسرحي. لأنّ الشروط نفسها حاضرة، ولعبة الإيهام هي نفسها. ربّما تتفوّق الـ«WWE» على السينما والمسرح في أنّ الإيهام، ومعايشة «الشخصيات» تأخذ بعداً زمنياً أطول بكثير. ما يحدث في عرض مسرحي من ساعتين قد يلخّص قرناً من الزمن، أما في المصارعة فالمتفرّج يتتبّع مسيرة الشخصيّة/ المصارع، الغامض، والمثير، منذ دخوله هذا العالم حتى اللحظة التي سوف يعتزل فيها. شخصيته الحقيقيّة وذاتيّته تُمحى (قبل عشر أو عشرين سنة، كان عدد الذين يعرفون الاسم الحقيقي لـ«أندرتايكر» لا يتخطّى عدد كتّاب حكايته، كذلك لم يكن مسموحاً له - وهو متفق مع ذلك - أن يظهر على العلن وأمام الناس، كي لا تخرب الأسطورة). إنّ العامل الزمني، في تتبّع الحكاية، وإثارة الفضول، والبحث عمّا إذا كان المصارع شريراً أو خيّراً، عوامل تأخذ الفرجة إلى أن تصير تورطاً. لأنّ المصارعة في أميركا، وفي الـ«WWE» هي صراع ميثولوجي وأسطوري بين الخير والشر. وكثير من الشخصيات، مثل «أندرتايكر» وغيره، ينتقلون ممّا هو خير إلى ما هو شرّ، ويتأرجحون بينهما. تصريح «أندرتايكر» بأنّ حرق منزله وهو صغير كان فعلاً قصدياً، بعدما ظلّت شخصيّته غامضة طوال سنوات، ومحبوبة، ورّطت المتفرّجين، وصاروا مثله، متأرجحين. وحين بدأت حكايته تتخلّى عن طقسيّتها، رجع الرجل فجأة كمشاكس على درّاجة ناريّة وعصبة على الرأس، وصدّق المتفرّجون أنّ تحوّلاً مثل هذا قابل للتصديق في حياته، وحين عاد بعدها كـ«أندرتايكر» مجدداً، لمّا صارت حكاية المشاكس مملّة، استقبله الناس كأنّ تطهراً في روحه أخذ مجراه، وأعاده إلى الدرب الصحيح: الرجل الذي يدفن الناس أحياءً في توابيت قرب الحلبة.
المصارعون، كما قال عنهم رولان بارت، أناس متمرّسون، شخصيات ملتزمة بالحكاية، يعرفون تماماً كيف يحوّلون الجولات العفوية للصراع إلى الصورة التي يكوّنها الجمهور عن الموضوعات الغرائبيّة في أسطورته. المصارع قادر على إثارة حماسة الجمهور أو إثارة قرفه، وهو لا يخيب أمله أبداً، لأنه يحقق ما ينتظره الجمهور منه دائماً بواسطة تعاضد جملة من العلامات.
صحيحٌ أنّ الجمهور مخدوع، في كثير من الأحيان، وغارق ومستغرق في لعبة الإيهام، ويظنّ أن كين الناجي من الحريق الهائل هو فعلاً أخو «أندرتايكر»، أي «كاين»، ويتماهى مع الحكايا إلى حدّ التقمّص والمحاكاة. قد يصبح «تأثير فيرتر»، الانتحار المحاكي الذي سمّاه عالم الاجتماع ديفد فيليبس بالاسم السابق: «تأثير أندرتايكر». وكثير من الحركات والعلامات وجدت طريقها إلى الحياة، عبر المحاكاة، اليد التي تتلوّى لتصبح أفعى، «لا تستطيع أن تراني» لـ«جون سينا»، قرفصة «راندي أورتون» على الأرض والخبط عليها ومدّ لسانه، ركلة «شوت مايكلز»، قبضة «أندرتايكر» على الرقبة، شقلبات «راي ميستيرو»، وغير ذلك الكثير.
إنّ الموضوعات الغرائبيّة التي كوّنها الجمهور في أسطورته الخاصّة عن أسطورة المصارعة الحرّة، هي التي دفعت الصنّاع إلى مزيدٍ من الطقوس، منافسات مثل: «رويال رامبل»، «راسلمينيا»، «سمرسلام»، «سرفايفر سيريس»، «إليمنيشن تشامبر»، «باكلاش»، «لاست مان ستاندينغ»، طاولات «سلالم وكراسٍ»، «باد بلود»، فولي لوديد»، و«الجحيم في الزنزانة». كلّما ازدادت الموضوعات الغرائبيّة في أسطورة الجمهور الخاصّة، ازدادت العروض عنفاً: مَن ينزف أولاً؟ مَن يُدفن أولاً؟ مَن يوضع في سيارة الإسعاف أولاً؟ والإنفيرنو (الجحيم) وغيرها.
ثمة وجه اتصالي بين ما يحدث داخل الحلبة وخارجها، بين حيّز الأداء وحيّز الجمهور (حتى لو عبر التلفزيون): يمنح مجالاً للتعبير الطقوسيّ عن الحرمان أو العدوان، ويحاول الفرد (المؤدي أو المتفرج) أن يثبت قيمته وانتماءه على المستوى الشخصي. كذلك فإنّ الحيّزين يتلاقيان، لأنّ كلاً من المؤدي والمتفرّج يتّجه إلى النسق الطبيعي، ويتخفّف من قيود النسق الاجتماعي، مثل المكانة أو الوظيفة الاجتماعية. قد يتورّط سلافوي جيجك أو رولان بارت، بينما يبحثان عن العلامات وما يمكن فلسفته في مباراة ما، بالتشجيع، أو قول: «اضربه، اضربه». على الرغم من أنهما يعرفان (ولا سيما بارت الذي قال ما سيأتي) أنّ الهزيمة هنا لا تشكّل علامة اتّفاقية يمكن تجاوزها ما إن يتمّ الحصول عليها، وهي ليست مآلاً بل مدّة، وهي عرض يستعيد الأساطير القديمة حول الألم والإذلال الذي يتمّ أمام الناس. وبما أنّ المصارعة هي الرياضة الوحيدة التي تعطي صورة خارجيّة للتعذيب، لا يتمنّى المشاهد للمصارع أن يتألّم فعلياً، إنه فقط يتذوّق صورة الأيقنة، إنه يستعيد الأساطير القديمة، ويكوّن تصوّرات جديدة عنها، إلى أن يكوّن أسطورته الخاصّة.
إنّ البحث عن طبيعة أو وجه أخلاقيّ للرياضة، وللمصارعة، وللـ«WWE»، هو كتفسير الماء بعد الجهد بالماء. هناك نظريات كثيرة تحاول تفسير الرياضة (ومنها المصارعة) تفسيرات اجتماعية، بينها نظرية مسمّاة بالمطابقة أو التوافق لهرجريفز (Hargreaves)، إذ يعتبر فيها أنّ الرياضة بشكل عام ظاهرة أيديولوجية سلبية، وانعكاس لمصالح الطبقة الحاكمة أو المسيطرة على مقاليد البلاد، وأحد خادميها وأدواتها الفاعلة في السيطرة. وثمة نظرية ثانية اسمها نظرية الصراع، تأسست على أفكار ماركس، تنظر للرياضة على أنها شكل محرّف للنشاط البدني تشكل وفقاً لاحتياجات النظام الرأسمالي للإنتاج، وأن من شأنها أن تسهم في اغتراب الناس عن أجسامهم، لأنها تتطلّع إلى تحطيم الرقم الزمني أو المسافة أكثر مما تنظر إلى الفرد كإنسان، إذ الجسد مجرد أداة أو وسيلة، يشبه الآلة المطلوب منها إنتاج أقصى طاقة وأكبر شغل. من هنا، يصبح قول هاري إدوارز واضحاً: «إذا كان هناك نظام يتطلّع إلى شعبيّة واسعة في أميركا، فإنّ عليه أن يجد سبيلاً ما عبر نظام الرياضة». دونالد ترامب، الرئيس الأميركي السابق، وأول رئيس يفوز بمباراة في الـ«WWE»، حلق شعر رأس رئيس الاتحاد، فينس مكمان سنة 2007، في «معركة المليارديرات»، ودعمته زوجة فينس، ليندا، في حملته الانتخابية، وكانت أحد مموّليها الرئيسيين.
لم يرفض مكمان أن يُذَلّ، أكثر من مرّة، على الحلبة وأمام الناس، حين كاد الاتحاد يخسر أو يفشل، بل هو الذي أشرك نفسه في اللعبة، ودخل ضمن الحكاية، كمشارك فيها هذه المرّة، وليس صانعاً. كما أنّه أدخل علاقته مع صهره «تريبل إيتش»، إلى هذه الصناعة. وأكثر من مرّة، صُوّر «تريبل إيتش» خلف الكواليس يتحدّث بغضب إلى زوجته ستيفاني (ابنة فينس)، فتطلب الأخيرة ألّا يؤذي أباها. هذه العجلة المتوحّشة للرأسماليّ، تدور وتدور، وتطال علاقة الفرجة والجمهور، كما تطال كتب السيَر الذاتيّة والأدب القصصي الذي يدور حول شخصيات المصارعين، وما يحدث خلف الكواليس وغير ذلك، عبر شركة «WWE» books.
أسطورة الـ«WWE»، ومعاركها التي أعدّتها الثقافة الإنسانيّة، قامت على توظيف الأسطورة وإعادة كتابتها، على الطقس، وعلى الدراما. فالمصارعة تملك سلطة تحويليّة خاصة بالفرجة، أو بالعبادة، وقد صارت تعبيراً طقوسياً مسيطراً، لها قدّيسوها وكهنتها وسدنتها. واحد منهم فينس مكمان، قدّيس لا مانع عنده من الإذلال في سبيل الربح، ولا مانع عنده من اغتراب الناس عن أجسامهم، لأنّ المصارعين، فوق الحلبة، في أعماق عارهم، يظلّون آلهة. ويشكّلون، للحظات، حسب تعبير بارت، المفتاح الذي يفتح الطبيعة والحركة الصافية التي تفصل بين الخير والشر. إن الحكاية، بوصفها أسطورة متحكّمة بكلّ مفاصل هذه الصناعة، والفرجة التي تقوم عليها الحكاية، صارت أشبه بالعقيدة، ولكلّ عقيدة ضحاياها. هنا قد يكونان: اللاعب والمتفرّج. أما شَعر فينس مكمان، فقد نما مرّة أخرى، أطول من ذي قبل.