ماذا يفعل الجسد الجاثم؟ أينتظر شيئاً أبعد مما يحلم الذهن؟ وإن قدم ذلك الشيء البعيد، أيقف الجسد ويركض لملاقاته؟ أيمرض الجسد الراقد من الانتظار؟ أيحلم بالانطلاق نحو مكان ما، ولكن يبقى في مكانه جاثماً، كقطعة الأثاث التي يرقد عليها؟ ماذا يفعل الرقود بالجسد؟لطالما اعتبرت أن «الراحة» المبالغ بها من المقومات الفاعلة، ولكن المواربة لأساس واستمرارية منظومة الرأسمالية. فبيوتنا متخمة بالأدوات العملية والتكنولوجيّة التي تزيد من «الراحة» اليومية. ومع أن الكثير من هذه الأدوات تخدمنا وتحمينا وتسهل من حياتنا، إلا أن البعض الآخر منها يعيق الحركة اليومية، والتعرض العفوّي لمحفزات بيئاتنا المحيطة خارج البيت والمكتب ومجمع التسوّق. فبين كرسيّ «المساج» والتقليب على «نتفليكس» والتسوّق الرقمي وخدمات التوصيل تتقلص الأسباب والمحفزات للخروج من المنزل، إذ يصبح الخروج (أو حتى التحرك مثل المشي داخل المنزل أحياناً) مصدر إزعاج، وذلك لأنه يخرجنا من محيط الراحة المثالية، والاستكانة «البيتيّة» التي يسبب التعرض لها لفترات طويلة نوعاً من الحبس الاختياري الذي نعي توابعه فقط عند الحاجة (والضرورة) إلى الخروج من المنزل.


ربما يشبه جثوم الجسد أوالرقود «البيتي»، الذي غصبنا على ممارسته في أوج جائحة كورونا، آلية عمل «الفيفاريوم»: وسط زجاجي مغلق يحوي النباتات، أحياناً الحيوانات الصغيرة والحشرات، والذي يتيح مجالاً للحياة العضوية بالرغم من انقطاع الهواء عن الكائنات في داخله. ولكن تنمو النباتات وتتكاثر المخلوقات الصغيرة في «الفيفاريوم» بالرغم من انفصالها التام والمادي عن محيطها. وبالرغم من اندفاعنا قسرياً داخل هذه الفقاعات «البيتية» في فترات الحظر إلا أن الكثير منّا استكان تماماً لهذا النمط الحياتي.
تغيرت طرائق أعمالنا وأشغالنا تماماً بعد جائحة كورونا، فأصبح عدد كبير منّا يعمل من البيت ونادراً ما يزور المكتب. ومع أن العمل في البيت يتيح لنا مجالاً صغيراً للتحكم أكثر بأجسادنا، خاص
ة أتمتتها في سبيل العمل الربحي، أي بيع أشغالنا البدنية والذهنية والإبداعية لشركات من غير واجهات إنسانية، إلا أن الاعتياد الزائد للراحة ربما ينتقص أكثر مما نتخيل بسبب الرقود.
ولست هنا أنظّر عن الجسد العامل، على الإطلاق بل أتوجه- وبما في ذلك إلى نفسي ككاتبة وباحثة تقضي فترات طويلة من وقتها جالسة تكتب، أو جاثمة- إلى عاملات وعمال الياقات البيضاء الذين يفقدون الكثير من أنفسهم في الأعمال الروتينية في مكاتب تشبه بعضها وتتنكر لإنسانيتهم. إذ تصبح الراحة الزائدة نوعاً من المتعة اليومية التي لا يتخللها تحرك الجسد الجثوم، وبالتالي تحرك الأفكار والإلهام. بهذا، يصبح الجثوم حجاباً ضد الحياة المعاشة والتجربة الحياتية المفعمة بتفاصيل الحياة والاكتشافات اليومية الصغيرة. نختار أن نخضع «الفيفاريوم» ونلبث فيه جاثمين.
ومع أن الرأسمالية تسبب، وبوحشية، الإرهاق اليومي بسبب التواتر الجنوني للأيام واستنزافها لأجسادنا وأذهاننا، إلا أن الجثوم والتوق إليه بغض النظر عن تبعاته لطالما وجد ورُمسنَ حتى. فمعيار الجمال الأنثوي في عصر الباروك الأوروبي، كما نلحظ في معظم اللوحات التي صدرت من ذلك الوقت، كان لنساء بيضاوات مكتنزات. فالبياض والاكتناز كانا يرمزان إلى الجثوم في البيت، وذلك لأنهما دللا على أن المرأة لم تضطر إلى العمل خارجاً في الحقول تحت الشمس لانتمائها لطبقات الأغنياء. ومع أن هذا المعيار إشكالي لدرجة كبيرة، خاصة فيما يتعلق بتصنيف أجساد النساء ومعايير الذكورية التي تمارس عليها من كل الجوانب وبشتى الطرق، إلا إن تكرار هذه الثيمة البصرية من قبل هؤلاء الفنانين الرجال عنى أن للجثوم (حتى المتخيل أو المغصوب على النساء) جماليّاته الخاصة التي احتاجت رموز معنية لترجمته بصرياً في الأعمال الفنية.
قد يبدو الخروج من «الفيفاريوم» مستحيلاً خاصة في بعض أيام الشتاء الداكنة وبعد أسبوع عمل طويل. قد يبدو حتى التفكير في التحضير للتنزه في الخارج البارد بدلاً من التقليب في برامج التلفاز عملاً مضنياً لا فائدة منه. وقد يبدو التسكع في المدينة على أمل التعرف إليها حقاً ممارسة مهيبة. إلا أن الجسد يعرف أين يذهب، ويحب أن يتحرك بين الناس، والشوارع، وأعمدة النور، والشجر، والمحلات، ويحب صوت طرق أقدامنا في هذه الطرق إصراراً على الوجود. فلعل الجسد يركض لملاقاة ما يحلم به الذهن بدلاً من الجثوم أمامه من غير حراك.