في معرضها الشخصي الأول «ملامح ميتة» الذي ضمّ يومذاك محاولات تجريدية وتعبيرية مبكرة، بدا أن تغريد دارغوث (1979) لن تتأخّر في أخذ عطلة من تقاليد اللوحة العادية. كأنّ المعرض كان كالدواوين الأولى التي يفضّل الشعراء نسيانها لاحقاً. هكذا، أدارت الرسامة ظهرها لمحتويات باكورتها التشكيلية، وانخرطت داخل حساسيات «الفن المفهومي» الذي غالباً ما تدين فيه الأعمال المنجزة لأفكار مسبقة. بدأ ذلك في معرضها الثاني «أطراف متهاوية» الذي كرّرت فيه رسم الدُّمى بأشكال مختلفة.
كان ذلك لعباً على رمزية الطفولة، وتقليبها بين هواجس فيتشية ومكبوتات سيكولوجية، واقتراح الجسم البلاستيكي للدمية كنواةٍ للمرأة ـــــ المانوكان. وهو ما تحول إلى مشروعٍ لمعرضها الثالث «مرآتي يا مرآتي» الذي قسّمت فيه دارغوث نساء لوحاتها إلى مهووسات بعمليات التجميل، بينما أرَّخ معرضها الرابع «جميلة ولطيفة» لآلام الخادمات الممرغات في الحياة السفلية لمخدوميهن.
معرضها «أنشودة الموت» في «أجيال» لا يختلف عن سياق معارضها الثلاثة. اللوحات تنويعات على فكرة مستوحاة من البرنامج النووي البريطاني المعروف باسم «قوس قزح». تصوّر الفنانة بمزيج من السخرية والمرارة، أهوال الموت المفترضة داخل هذا الاسم الذي تكاد حروفه تضحك. قوس قزح الذي كان إشارة لنهاية الطوفان وبداية الحياة الجديدة، ينقلب هنا إلى سلاح استراتيجي. تتماهى لوحات دارغوث مع نبش الاستعارة المرعبة المكسوّة بالألوان السبعة التي يُحيلنا إليها الاسم. تُدخل المتلقي إلى تفاصيل البرنامج، وتروح تجسّد بصريّاً أسماء القنابل المصنفة فيه: الأرنب الأزرق، الشمس الصفراء، الببغاء الأخضر... هكذا، تصبح للفكرة استطرادات محفزّة، وتتحول اللوحات اللافتة بقوّة اللون، وقوّة الأداء التصويري، إلى ترجمات متعددة لها، ضمن هويّة تعبيريّة صارخة، تذكّر أحياناً بتأثراتها بالمدرسة الألمانيّة. بطريقة ما، تبدو الفكرة مساوية للنتيجة. الدمار النووي هو «المعادل الموضوعي» لمشروع المعرض. نرى أنفسنا أمام سبعة تفجيرات نووية مرسومة في سبع لوحات . الفطر الذي تصنعه القنبلة لحظة انفجارها مكرر بألوان قوس قزح السبعة. إنه قوس قزح الموت، بحسب العنوان. الجماجم خلاصة هذا الموت، تتكرر تبعاً لإيقاع يبلغ حدّ الهوس بملامح كاملة أو متآكلة، تنظر إلينا بمحاجرها الفاغرة، أو تكون جانبية، بينما تتسلل إلى خلفية اللوحات تأويلات بصرية مباشرة لأسماء القنابل، فنرى وروداً حمراء، وببغاوات خضراء، أرانب زرقاء ... في واحدة منها بعنوان «الدانوب الأزرق» الذي تفرشه في السياق، كإحالة شتراوسيّة إلى «رؤيا» كوبولا، نرى الجمجمة مرسومة على نوطة موسيقية. تعود الرسامة إلى مذكرات العالم الأميركي روبرت أوبنهايمر الملقب بـ«والد القنبلة النووية». تستثمر لغته في عنونة بعض اللوحات: «أكثر لمعاناً من ألف شمس»، «الآن أصبحتُ الموت». أما لوحتا «الرجل السمين» و«الرجل النحيف»، فهما مأخوذتان من وصف أوبنهايمر لشكل القنابل قبل تفجيرها، إذْ شبّه السمينة بتشرشل، والنحيفة بالممثل الأميركي سيدني غرينستريت. المعرض يثير إشكالية سياسية وأنثروبولوجية. الفن ضد سباق التسلح. نبرة الاحتجاج مصحوبة بالسخرية من تغليف الموت بعناوين سعيدة. بالمقابل، تحدّ فكرة المعرض من إمكان استخدام المهارات في الرسم. ثمة تنويع في المكونات والمساحات، ولكن تغيير القياسات لا يغيّر إحساسنا بأن الرسامة تكرّر ترجمة الفكرة ذاتها. هل المعرض أكبر من فكرته؟ العلاقة الممكنة بـ«الفن المفهومي» كمرجعيّة، لا تغيّر من إلحاح السؤال، أمام تجربة دارغوث التي تأخذ مكانها إلى جوار تجارب شابة أخرى «تُفسد» فكرة اللوحة الصافية لصالح فنون معاصرة، تمثّل جزءاً أساسياً من راهن المشهد التشكيلي اللبناني.



«أنشودة الموت»: حتى 24 الجاري ـــ «غاليري أجيال» (بيروت). للاستعلام: 01/345213