تحت عنوان «هكذا قتلتُ شهرزاد؛ اعترافات امرأة عربية غاضبة»، تقدم جمانة حداد نفسها، كصوت أنثوي جاذب يزعزع التابوات، بدءاً من الجسد، وصولاً إلى حريّة التفكير والتعبير. صدر الكتاب بالإنكليزية والفرنسية العام الماضي عن «دار الساقي»، ولاقى رواجاً قبل صدوره بلغة الضاد بتعريب نور الأسعد. في كتابها الذي يحتوي على سلسلة مقالات ونصوص، توجّه صاحبة «لم أرتكب ما يكفي»، رسالة غاضبة إلى القارئ العربي والغربي في آن واحد، وتمارس لعبة التماهي المضاد مع شهرزاد الأسطورية والواقعية أيضاً، رغم أنّها أعلنت اغتيالها لهذه الشخصية المزدوجة.
ألم يكن الأجدى بها قتل شهريار، بما يمثله من عيّنة عن السلطان الذكوري، على قاعدة أنّ شهرزاد هي الضحية، وهي نتاج لظلم هذا السلطان، لا العكس؟
منذ السطر الأول، تجهد حداد في تحفيز أنوثتها، قبل أن تعلن حربها اللطيفة على المنظومة الأبوية، برغبة أو من دون رغبة. تعاين بشيء من الإيجاز الرؤية الدينية للمرأة في الديانات التوحيدية، وتسعى إلى تعريةِ ذكورية المجتمع العربي، بمنهجية إيقاعية وخطابية، يغلب عليها الطابع الذاتي. سيطرة الطابع الأدبي بنبرته الذاتية الفائضة، منع عن صاحبة «عادات سيئة» الوصول إلى المشتهى. أي إنّها لم تحدّد للقارئ خريطة طريق واضحة، في ما يتعلّق بهموم المرأة العربية، أسيرة الجسد والمجتمع. ولم تحدّد بالشكل المطلوب تمثّلات وأد الأنثى للأنثى. نصّ جمانة حداد عبارة عن شهادات متقطّعة، لا ترقى إلى الأقصوصة الذاتية الكاملة. تحكي منذ مراحل مراهقتها الأولى، بدايات ترحالها في عوالم المحرّمات والممنوعات. وتبدأ رحلتها مع خرقها للأدب الجنسي العالمي. تتنقل الكاتبة بجسدها وحواسها من مكان إلى آخر، فتكشف لنا كيف حطمت المرغوب/ الممنوع عبر قراءاتها للمحرم الجنسي، وكتابة الشعر الإيروتيكي، وتأسيس مجلة «جسد».
نقطة مفصلية تشير إليها صاحبة «عودة ليليت»، تتمثل في كيفية تلقّي محيطها الأقرب والأبعد لتحولاتها المتراكمة كـ«امرأة غاضبة»؛ إذ اتّهمَها بعض النقاد بأنّها تعمل على «ترويج الأدب الإيروتيكي». طبعاً، لم تكن تجربة حداد هي الأولى عربياً في هذا المجال؛ إذ ضجت المدوّنات العربية بأدب الجسد ومتعلقاته، ومنها الكثير مما كتب بأقلام نساء... وقد تسعفنا مدوّنة ابن طيفور تحت عنوان «بلاغات النساء» على ذلك. تكسر الشاعرة التحريم داخلها، قبل أن تنتقل إلى السياق العام، وتعرّج باقتضاب على أهم المحطات التي بلورت موقفها من الأشياء والمعاني. تحاول التعبير بأحادية ذاتية، عن غضبها كأنثى متمردة، فلا تتوانى عن إسقاط تجربتها على هموم الأنثى العربية، الموؤودة بالقهر الديني والمجتمعي. ثمّة أسئلة كثيرة يمكن طرحها على صاحبة «مرايا العابرات في المنام»: هل حاولت تقمص صوت شهرزاد بنبرة مضادة؟ ولماذا هذا الحضور الكثيف واللامرئي للغة الرمزية بصرف النظر عن طبيعة النص؟ وإلى من توجه بيانها؟ إلى المرأة العربية من موقع التضامن؟ أم أنّها تكتفي بعكس الذاتي على العام؟
كأنّ المعركة مع شهرزاد وتحولاتها تكمن في قتل أنموذج المرأة المقهورة التي تلبس ألف قناع وقناعاً تفادياً لإغضاب الذكر، لا في تغيير المفاهيم البطركية التي أنتجت شهريار، ولا في الانتقال بالمرأة من عصر الحريم المعاصر إلى عصر الشراكة بين الذكر والأنثى. على إيقاع الأنثى المتمردة، تنجذب حداد إلى إشكالية الإشكاليات، أي الدين والسلطة والجنس، وتشير إلى أن المرأة العربية وقعت في براثن هذه الثلاثية العنفية. ثمّة نوع من التماهي بين الكاتبة وشهرزاد، يمكن أن نطلق عليه التماهي المضاد. أسلوبها في الكتابة يتسم بالنمط الروائي، المتقطع والخطابي أحياناً. بدت كأنّها تقتفي آثار شهرزاد، بسياق أدبي معاكس. فهي تارة توجه رسالتها إلى الرجال، وطوراً إلى النساء الرافضات والمقموعات. وبين هذا وذاك، تحتلّ «الأنا» الشهرزادية الناطقة والمتحولة المحور الأساسي.
قد يبدو الكتاب «دعوةً جريئة إلى كل النساء العربيات كي يدافعن عن أنفسهنّ وحقوقهنّ»، كما ورد في صحيفة «نيويورك تايمز». لكنّها دعوة سطحيّة في نظر بعض منتقدي جمانة حدّاد، ممن يرون أن هذا الاستعراض الفولكلوري الذي يفتن الغرب الاستشراقي، يفتقر في الحقيقة إلى انخراط فعلي في تاريخيّة الصراع من أجل الحريّة في العالم العربي والإسلامي، ويفتقر أيضاً إلى الراديكاليّة في نقد البنى التقليديّة، الذكوريّة غالباً التي صنعت مجد جمانة ورواجها. كذلك إن صاحبة «يدان إلى هاوية» تغفل الإشارة إلى أنّ أزمة الشراكة بين المرأة والرجل لا تقتصر على العرب، بل لها أبعادها العالمية، رغم الحقوق التي منحت للنساء على الضفتين الأوروبية والأميركية. وتتفادى الكاتبة الدخول في مواجهة مباشرة مع المنظومة البطركية التي يمثّلها شهريار كأحد أبرز رموزها الأسطورية والفحولية.
بين المقدس المنتصر للرجال والهيمنة الذكورية المناهضة للنساء، لعبة متبادلة، تفتح نهم السلطان القهري الذي تدفع ثمنه المرأة، في عالم عربي، ما زال يوسّع الشرخ بين الأنثى والذكر على مستوى الخريطة الجنسانية والاجتماعية والسياسية... وإلّا فكيف يُفسّر حجم التفريق الهائل الذي يبدأ بتدابير الإذكار والختان ومصادرة صوت المرأة في الحيز الخاص والعام؟ كان على جمانة حداد الابتعاد عن التماهي بين الخاص والعام، وتحديد آليات قتل شهريار، صارخةً بصوت مضاد: «هكذا يقتل شهريار».
يمكن تصنيف كتاب جمانة حداد في خانة الأدب الأنثوي الثائر أو الرافض، وهو إلى حد كبير يبتعد عن الكتابة النسوية الجادة. العالم العربي يحفل بأصوات جديدة في هذا المجال، لا تقتصر على حقل الأدب والشعر، رغم أهمية هذين الحقلين. بل هناك أطروحات نقدية علمية، آخذة في التراكم، جزء منها يقارع النص الديني الذي بدأ مع نظيرة زين الدين صاحبة «السفور والحجاب»، وجزء آخر يتحرّى عن مؤثرات المنظومة البطركية على الأنثى العربية المتعددة الوجوه. وطبعاً ليس من السهل على الاتجاه النسوي العربي تسجيل أكثر من انتصار معرفي في فضاء لم يحقّق حتى اللحظة التصالح بين طرفي الحياة، أي الرجل والمرأة. القمع الذكوري للأنثوي لا ينهض من الأساطير ومآثر «ألف ليلة وليلة»، بل يمثل رافداً من روافد القهر المستديم الذي يجد محركاته في القراءة الذكورية للمقدس، وفي العبودية المختارة أو العنف الطوعي... كلّ هذه القضايا أغفلتها جمانة حداد في كتابها «هكذا قتلت شهرزاد»، رغم النسق الأدبي/ الذاتي الذي يسيطر على مفاصل الكتاب.