في مجموعته التاسعة، لا يكتب جودت فخر الدين سيرته مع الغيم فقط، بل مع عناصر أخرى تنتمي إلى الطبيعة التي حضرت بطرق وممارسات شعرية مختلفة في تجربته. الشاعر اللبناني اهتدى منذ بداياته إلى نبرة تجمع بين تأنّي العبارة وتأمل الطبيعة وإيقاع التفعيلة. والطبيعة حاضرة أيضاً في عمله الجديد «فصول من سيرتي مع الغيم» (الريس)، حيث تتحول كالعادة إلى مادة للتأمل الشعري، أو مناسبة مواربة لاستعادة فردوس طفولي مفقود.
صاحب «أوهام ريفية» لا يراقب الحياة من الخارج، بل يدسّ نفسه بين مفرداتها. في قصيدة «لم أجد غير نفسي»، يبتكر مفارقة شكلية بين قامته المديدة وشجر الحور: «وكنتُ أرى كل شيء قصيراً/ فرافقني الحورُ/ رافقني كأخٍ لي طويلٍ/ .../ كان أطول مني إذا ما كبوتُ/ وأقصر مني إذا ما زهوتُ/ ولكنه كان مثلي نحيلاً وهشاً/ ويحفر فيه الأذى».

وفي القصيدة التي حملت عنوان المجموعة، يعقد صلات استعارية بين عبور الغيوم وعبور الكائن في أعماره المختلفة. يمتدح طفولته: «غيوم البدايات أجمل/ لي بعد ذلك أن أستخفّ بكل مصير». ويأسى لفعل الزمن: «ذكرياتٌ غيومٌ/ وليت الزمان له خفة الأمس/ ليت الزمان برمّته/ مثل أمس تحرّكه الريح في وهنٍ/ فيطير كما ورقٌ في الخريف/ هنا، وأنا أراقب الآن شمل الغيوم الذي يتجمع فوق التلال/ تروح بي الذكريات إلى زمن كالأثير/ إلى زمنٍ لم يكن/ زمنٍ لم يعُد/ زمنٍ لم يزلْ».
في قصيدة «يوميات بيضاء»، يرى بياض الثلج كبياض الورقة التي سيكتب عليها: «يقول لي الثلج في أول العام:/ قفْ، وابتدئْ/ ها أنا الآن صفحتكَ الخالية/.../ وأبقى هنالك مبتدئاً بين هذا وذاك/ أحاول في كل يوم صناعة معجزةٍ للبياض/ أحاول كل يومٍ/ ولستُ لأنتظر الثلج».
هكذا، يمتزج الحوار مع الطبيعة بالحوار مع النفس. بينما يعمل الشاعر على خلط الحوارين مع الحوار الداخلي للتجربة الشعرية التي تتراكم من ديوان إلى آخر، وتستثمر مناخات النثر ومعجمه اليومي. بهذه الممارسة، ينظف الشاعر قصيدته من صخب الإيقاع، ويقرّبها من كتابة شعرية أكثر حداثة، لكنها تتأخر تجريبياً عن قصيدة النثر التي تكتبها الأجيال الجديدة. كما أن اكتفاء الشاعر بالخفوت والتأمل يقلّل من حرصه على استدراج اللغة إلى صور مباغتة للقارئ. قد نلتقط صورة مثل: «وغافلنا الغيمُ/ إذْ نتفٌ منه راحت تحلق أبعد مما نظن/ وأخرى أتت تستحمّ هنا/ في مياه البحيرة»، أو قول الشاعر لأبيه الراحل: «لقد هدّك الداء/ لكنك الآن أفلتَّ منه/ شفيتَ، وآلامك انطفأت»، ولكنها لا تشبه تلك الصور المتفردة التي تفاجئ ذائقتنا.
ندرة الصور توحي بأن ما يهم الشاعر هو بناء القصيدة. كأن المطلوب هو خلق تأثير شامل لدى قارئ لا يجد غضاضةً في الاستسلام للغة خافتة، تصيبه بحنين وأسى يتنزهان في المجموعة كلها.