عندما نقول إن «مهرجان البستان» ظاهرة موسيقية كلاسيكية بامتياز، لا نعني أنّه يبني برنامجه على هذا النمط حصرياً. فقد عوّدنا المنظّمون فرد هامش معيّن لمعظم أشكال التعبير الفنية. إنّه ظاهرة كلاسيكية بامتياز، لأنّه نجح على مدى السنوات الماضية في تحقيق إنجازات مهمّة على صعيد برمجة المواعيد الكلاسيكية. في الجاز (باستثناء محطّات نادرة) كما في الموسيقى الشرقية، لم يجد القيّمون على «البستان» الصيغة التنظيمية التي من شأنها أن تجعل من الأمسية الواحدة المحجوزة لكل من هذين النمطين، حدثاً بحدّ ذاته.

أما في الموسيقى الكلاسيكية، فاللمسة المهنية واضحة. صحيحٌ أن المهرجان استضاف العديد من الأسماء المكرّسة، لكنّه أضاء أيضاً على مواهب مغمورة دعيت ومرّت غالباً من دون أن تلقى اهتماماً كبيراً من الجمهور، قبل أن تسطع بعد بضع سنوات في سماء النجوميّة.
قد يرى بعضهم أنّ للحظ دوره، أحياناً، في احتضان «البستان» مواهب جديدة، لم يكن يتنبأ بتألقها اللاحق في عالم الكلاسيك. لكن إذا راجعنا تاريخ المهرجان منذ انطلاقه، نلاحظ أن تكرار هذا الأمر يتخطّى لعبة الحظ. وفنانو «البستان» الذين تنطبق عليهم هذه المعادلة كثر. سنكتفي هنا بالإشارة إلى الحالات اللافتة جداً.
الفئة الأهم في هذا السياق هي العزف على البيانو. أول اسمين يتبادران إلى الذهن هما الفرنسيان ألكسندر تارو وجان إيفام بافوزيه. الأول شارك في مهرجان البستان عامي 1996 و1998، قبل سنوات من تداول اسمه بقوة. اليوم تسجيلات تارو تباع بالآلاف، وتخطّى تكريسه فرنسا وحتى أوروبا. أما بافوزيه الذي مرّ من هنا عام 1999، فقد أصبح لاحقاً الاسم الأول في العالم لناحية اختصاصه في الأعمال الانطباعية الفرنسية (دوبوسي ورافيل)، حاصداً التقديرات على إصداراته (آخرها أعلى تقدير من مجلة «ديابازون» المتخصصة، عدد كانون الأول/ ديسمبر 2010).
في هذه الفئة أيضاً مرّ على خشبة «البستان» البولوني بيوتر أندرشيفسكي (دورة 1999)، الروسي نيقولاي ديميدنكو (دورتا 1996 و2001) وكلاهما بات من الرموز الثمينة، إضافة إلى الروسي بوريس بيريزوفسكي الذي شارك 7 مرات في «البستان» بين 1996 و2009، أي منذ بداياته وبعد بلوغه القمة. أما عازف البيانو الذي يُنتظر أن يصبح اسمه على كل لسان قريباً، فهو الألماني سيفيرين فون إكاردشتاين الذي قدّم أمسية في دورة 2004.
بين عازفي الكمان، نكتفي بذكر الروسي الشهير فاديم ريبين الذي لم يكن قد سمع باسمه إلا المتابعون الجدّيون عندما زارنا في 1996، وكذلك الألمانية إيزابيل فاوتس (دورة 1997) التي ارتفعت أسهمها بعدما اختار النقّاد تسجيلها الأخير (أعمال الكمان المنفرد لباخ) واحداً من أفضل 14 تسجيلاً لعام 2010 من بين مئات الإصدارات. أما الاسم الذي يُنتظر دخوله نادي المشاهير فهو راي تشان الذي استضافه المهرجان اللبناني في موسم 2010، وكان قد وقّع منذ أسابيع قليلة عقده الثمين مع Sony، وأصدر أسطوانته الأولى الشهر الماضي عند الناشر العريق. أما مشاهير الغناء الأوبرالي اليوم، فمن أبرز مَن دعاهم «البستان» قبل تكريسهم العالمي، نذكر الكورية سومي جو التي لم يكن اسمها غير مألوف عندما شاركت في برنامج المهرجان عام 2001، لكنها لم تكن بالمستوى العالمي الذي باتت تتمتع به منذ سنوات قليلة. أما الأهم، فهي النمساوية أنغيليكا كيرشلاغِر (دورة 1997) التي انتظرنا طويلاً قبل أن تصبح النجمة التي لا تغيب أخبارها عن المجلات المتخصّصة.
تطول لائحة الفنانين الكلاسيكيين الذين مرّوا (مرور الكرام) من هنا، وقد تنجح جهةٌ ما في دعوتهم ثانيةً، لكن في إطار مختلف (مهرجانات الصيف مثلاً). وتبقى العبرة أن ندرك دائماً أنّ الجمال لا يأتي فقط من الأسماء المكرّسة. لا يرتقي أي فنان إلى التكريس إلّا بفضل الجمهور الذي يتلقّف الجمال أولاً وأخيراً.