الشيخ الرئيس، فيلسوف الفكر العربي، ربيب الفارابي، الحاكم الفيلسوف، كل هذه الألقاب وأكثر تنطبق على ابن سينا. على وقع المواءمة بين أفلاطون وأرسطو، تحرى صاحب «الإشارات والتنبيهات» عن الله والعالم. اندرج وجود الله في فلسفته تحت مسلكين: برهاني/ عقلي وصوفي/ حدسي، أو ما يمكن تسميته دليل الواجب الممكن. في بحثها «الله والعالم في فلسفة ابن سينا» (دار التنوير)، تحاول الباحثة المصرية رجاء أحمد علي تتبع ما خلص إليه فيلسوفنا من أدلّة عقلية/ برهانية تجيب عن أولى تساؤلات الإنسان عن الذات الإلهية والوجود.تأسس علم الإلهيات الذي أبدع فيه الشيخ الرئيس، على التمييز الفلسفي بين الوجود والماهية في الموجودات، وعلى الجمع بينهما في «الذات الواحدة» أي الله، ما يعني التمايز بين الممكن والواجب. ما معنى دليل الممكن الوجود، والواجب الوجود، في فلسفة البرهان الوجودي؟ الواجب الوجود (الله) هو الوجود الضروري الذي يتوقف على عدمه عدم كل موجود، والممكن الوجود (الموجودات) «هو الذي متى فُرض غير موجود أو موجود، لم يعرض منه محال». الاستدلال على الله عند ابن سينا لا يأتي من خلال موجوداته، «بل لا بد أن نستدل عليه من الوجود نفسه». وعلى هذا، انتقد دليل المتكلمين الذين يستدلون بالمخلوق على الخالق، فهم يهبطون من العلة الأولى إلى المعلول، أي من الله إلى العالم.
ابن رشد الذي انتقد الفلسفة السينوية ارتكز على ثلاثة براهين لتأكيد ضعف منهجها. الأول، تأثر ابن سينا بمقدمات كلامية، وثانيها تأثره ببعض الأبعاد الصوفية. كذلك فإنّه في نسبته إلى أرسطو، أورد آراء لم يقل بها الفيلسوف الإغريقي، بل قال بها فلاسفة آخرون. ومن خلال النقد الرشدي لابن سينا، تفكّك رجاء أحمد علي المسببات التي دفعت صاحب «تهافت التهافت» إلى الخروج بثلاثيته، نافيةً أخذ الشيخ الرئيس بدليل المتكلمين أولاً، مؤكدةً اعتماده على قانون السببية ثانياً، ومشيرةً إلى اعتماده على المواءمة بين الفلسفة الأرسطية والإسلام ثالثاً.
تعرّج صاحبة «الكمون والفكر الإسلامي»، على دليل العلية، أحد الأدلّة التي صاغها ابن سينا لإثبات وجود الله. في هذا المجال، نجد دليلين: كل علة لا بد لها من معلول، ولا بد من الوقوف على علة أولى هي علة العلل. أمّا الغائية، أي دليل ابن سينا الثالث، فترتكز على القول بأن المادة عاجزة عن تدبير نفسها بنفسها، وبالتالي لا بد لها من وجود ناظم يسود العالم، وهو منظم عاقل، أي الله. لكنَّ باسكال لم يقتنع بهذه النظرية، وهي برأيه لا ترضي سوى المؤمن.
تحرّى ابن سينا عن إثبات وجود الله كالباحث عن الحقيقة بعقل القلق. برهن على الوحدانية الإلهية، مازجاً بين الأدلة النقلية والعقلية، وهو المتأثر بأرسطو والمنتصر لإسلامه، ولعلّ هذه المعادلة توجز علم الإلهيات عنده.
نقرأ في الكتاب أيضاً عن قدم العالم أو حدوثه، إحدى أهم الإشكاليات التي أدت دوراً خطيراً في الفكر الفلسفي الإسلامي، كما تلفت الكاتبة. بين القائلين بقدم العالم، وفي مقدمتهم المعتزلة، والقائلين بحدوثه، كيف صاغ الشيخ الرئيس موقفه؟ وهل تبنّى مقولة قدم العالم، ما يؤدي إلى المساس بعقيدته الإسلامية المتأسسة على مبدأ الخلق من عدم؟ أمام هذه الإشكالية، آثر ابن سينا القول بالإبداع، واتخذ موقفاً وسطياً بين المتكلمين والفلاسفة. هكذا، رأى أنّ قدم العالم ليس مطلقاً؛ «فالعالم قديم بالزمان، متأخِّر على الله بالذات».
سعت رجاء أحمد علي إلى إيجاز الفلسفة السينوية بأسلوب العرض والتحليل والمقارنة والنقد، ما جعل دراستها، مادة غنية. لكنها لو عرفت بعض المصطلحات بهدف شرحها لغير المختصين، لاستطاعت بذلك اكتساب معركة المنهجية العلمية، إلّا أن هذه الثغرة لا تنفي الجهد العلمي الذي بذلته المؤلفة، ولا سيما قدرتها على طرح الأفكار وتفكيكها.
لعل إشكاليات وجود الله ونشأة الكون والجبرية وفطرة الخير التي عمل عليها الشيخ الرئيس وغيره، مسائل ما زالت حتى اللحظة الراهنة تؤرق العلماء. وهي إن دلت على شيء فعلى العودة Palingénésie إلى الأسئلة الوجودية التي أثارها العقل البشري ولمَّا يزل.