القاهرة | من المعروف بداهة أنّ أمثال إبراهيم أصلان حينما يموتون فإنهم لا يموتون فعلاً. لذا، فالحزن العادي على الموت قد لا يكون في محله هنا، بل هو حزن صمت الموسيقي في نهاية الحفل، واعتزال اليد عن هوايتها في نحت الكلام، وانتهاء الوعد بتلقّي المزيد من النصوص الأصلانية المتأنية، المتباعدة، الفريدة. ولأنه ليس موتاً حقيقياً، فلا عزاء يفلح فيه سوى أنّ العم أصلان لم يحفل كثيراً بالزمن منذ «بحيرة المساء» إلى «حجرتان وصالة».
عندما أصدر مجموعته الأولى «بحيرة المساء» عام 1971، كان في منتصف الثلاثينيات، وهي سن يصلها كتّاب اليوم وفي حوزتهم ثلاثة كتب أو أربعة. لكن أصلان لم يكن يعاني أزمة نشر، بل يعتنق تمهلا نادراً في الكتابة اتضح في روايته «مالك الحزين» الذي أورد في نهايتها أنّها كتبت من ك1 (ديسمبر) 1972 إلى نيسان (أبريل) 1981. هذا التأني لا يعنى سوى أنّ صاحبه لا يحفل بما يتقاتل عليه الآخرون من «مجد» و«عالمية». وها هو يغادرنا وليس في جعبته سوى 9 كتب تتنوع، لا كما تتنوع الأخرى بين رواية وقصة، بل بين نصوص يمكن أن نصنّفها، وأخرى لم يسمّها سواه، «متتالية منزلية» هو الاسم الذي أطلقه على كتابه الأخير «حجرتان وصالة». وفي «خلوة الغلبان» و«شيء من هذا القبيل»، ثمة إيحاء مخادع بأننا إزاء مقالات لا نلبث أن نكتشفها كحالات عصية على التصنيف، لكنها ليست عصية على القلب. وفي إحداها، يقول إنّه اختار اسم «بحيرة المساء» من نصف شطر بيت لعبد الوهاب البياتي. وبعد سنوات، يلتقي الشاعر العراقي فينصحه الأخير بأن «على الواحد أن يعيش ويراقب ما شاء، شرط أن يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها ألا ينكسر قلبه»، لكن أصلان يعترف بأنّ القلب انكسر فعلاً. ومع ذلك، يبدو أنّ نصيحة الشاعر وجدت موقعاً مألوفاً في كيانه، فراقب العالم كأنّ لديه الزمن كله. ولهذا ربما لم ينشغل بالمعارك الصغيرة بل بالتفاصيل الصغيرة، ورسمت فرشاته العالم عبر جزئياته الدقيقة ولحظاته الغافلة وكلماته العابرة. وفي جميع نصوصه، تكاد الصفحات تضيء من فرط البياض لقلة الكلمات. ويبدو السرد الفعلي أحياناً ليس في الأحرف والعبارات، بل في المساحات الخالية بينها، ويكاد يستحيل اقتباس شيء من النصوص. الدهشة ليست في سطر بعينه، بل في ما يظهر وما لا يظهر معاً. يصعب الاجتزاء والاقتباس. ولهذا، فعندما اقتبس داود عبد السيد «مالك الحزين» في فيلمه «الكيت الكات»، استقى روح النص وصنع منه لغته السينمائية الخاصة. هكذا احتل «الكيت كات» مكانه في قائمة أهم الأفلام، واحتلت «مالك الحزين» مكانها بين أهم الروايات.
ربما كان ثمة سبب آخر لقلة أعماله أنّه لم يكتب سوى عمن يعرف. عندما عمل في إدارة البريد، كان شاباً. فتحت له مرة الباب مراهقة جميلة تسأله فجأة «إنت بتشتغل كده ليه؟ كنت في الثامنة عشرة من عمري، وهي لاحظت حرجي وصمتي، وقالت مستنكرة: إنت شكلك حلو سيب الشغل ده واشتغل شغل تاني. وأخذَت الخطاب وأغلقت الباب»، لكنه لا يحكي تلك الحكاية في كتابه «وردية ليل» الذي يدور في عالم موظفي البريد. بل انتظر ليحكيها في «خلوة الغلبان». انتظار هو نوع خاص من تقطير التجربة وتقطير الكلام، ومن يعلم فربما دفعته تلك البنت حقاً في ذلك الزمن البعيد كي «يشتغل شغل تاني». لكن نصيحة كاتب عجوز مغمور لم تكن تقل إدهاشاً، عندما نصح الشاب إبراهيم «لازم تكتب، الكتابة هي الشيء المهم». ويسكت الشاب متأملاً سوء حال الرجل، فإذا بالعجوز يصيح فيه غاضباً «أنا مش مقياس. فاهم؟». وسواء كان السبب صرخة الرجل أو سؤال البنت أو نداءه الذاتي، وجد الشاب نفسه في طريق كتابة لا تتعجل نفسها. وبين مصلحة البريد وحواري إمبابة وشوارع الكيت كات، وجد الناس الذين عَبَر من خلالهم إلى أسئلة الوجود. وعندما ترك كل ذلك إلى المقطم، البعيدة عن الزحام، كتب الحزن المنزلي في «حجرتان وصالة»، حيث التلصّص على الكفاح الذاهل لكهل ترحل زوجته، وتتركه في متاهة الأدوات المنزلية وعلب الدواء، ثم ينتقل أصلان نفسه في أيامه الأخيرة من بيته إلى بيت آخر. وفي عموده الأخير في «الأهرام» يسأل نفسه: «هل يليق أن يكون البلد هكذا؟ وتروح أنت تحدث القارئ عن الكتب والانتقال من مسكن إلى آخر، هل هذا كلام؟» ثم يجيب: «تلك الحكايات الصغيرة العابرة التي نتبادلها طيلة الوقت، في كل مكان، هي ما يجمع بيننا، وما يبقينا على قيد الحياة».