لا يمكن لمن يستمع لبعض مقدمات نشرات الأخبار على القنوات اللبنانية منذ أيام، إلا أن يلاحظ الكم الهائل من «التزلّف» و«الشحدة» (بالعامية) التي احتلت خطاباتها، مع تبنٍّ كامل للرواية الرسمية السعودية في ما خصّ طرد اللبنانيين من منطقة الخليج. مشهد «التذلل» الغريب، يذكّر أولاً بالإعلام البولندي إبان الاحتلال النازي، هو الذي كان صاحب نظرية إنّ «القائد الأعظم – الفوهرر آنذاك- أتى لاحتلالنا لأنه وجد أنه من الأفضل لنا أن يحتلنا ولهذا يجب أن نكون له من الشاكرين»، وثانياً في الإعلام الفرنسي إبان حكومة فيشي الذي طبّل للاتفاقية مع النازيين باعتبارها انجازاً ثورياً، واصفاً الثوار الحقيقيين آنذاك بالمخربين والمحرضين على حرق البلاد.
بعيداً عن التاريخ، بدا أنَّ بعض وسائل الإعلام اللبنانية تؤدي دورها الرئيس في «تعويم» قضية اللبنانيين في الخليج وإمكانية طردهم من هناك؛ لكن ما فاتها أنَّ هؤلاء اللبنانيين لا يقطفون الأموال عن الأشجار هناك. كما أنّ الخليجي ــ كمدير أو كأمير- لا يعطيهم رواتبهم «صدقة» بل «كرواتب» نظير عملٍ يفيده هو شخصياً قبل غيره، ويحقق له الملايين من الدولارات.
ظهرت قناة «المستقبل» مع مقدّمتها لينا دوغان ناصر رافعةً لواء الحرب: «انظروا من حولكم، شعبٌ عاطلٌ على العمل، ودولةٌ عاجزةٌ عن اتخاذ القرار». يتساوى الجميع في تلك الدعوة (ضمن منطق نداء شاركونا شاركونا) فهم كلهم شركاء، سواء في العمل أو في النتيجة. حرب «المستقبل» الكلامية أمرٌ منطقيٌ للغاية، فرئيس التيّار سعد الحريري مقيمٌ دائمٌ في المملكة، كما تربطه بها علاقة «وجودية» في حال انتهت يوماً، ستكون تلك خاتمة للمشروع الحريري بأكمله. انطلاقاً من ذلك، يجب أن يتعرّض «حزب الله» للتشويه (كما الأبلسة) عبر كل الوسائل. لكن لماذا استعمال «ورقة اللبنانيين في الخليج»؟ هي نظرية روبرت مردوخ الإعلامية الشهيرة: «أن تضرب خصمك في مكانٍ ما، وتدفع الإعلام للحديث عن هذا الأمر بصفته نهاية العالم». إنه التهديد الدائم للبنانيين في الخليج بالطرد من هناك، الخاصرة الرخوة للبنانيين، واليد التي تؤلمهم. كان الحديث عن هذا الموضوع كأنه نكء للجرح، وغوصٌ في أعماقه. «أم. تي. في» هي الأخرى لم تجد وسيلةً إلا واندفعت إليها للحديث في الأمر، فاستضافت رئيس غرفة الصناعة والتجارة اللبنانية محمد شقير للحديث في الشأن عينه. بدا الرجل غاضباً، مستشيطاً، وهو يتحدّث عن السعودية والخليج، وكيف أنَّ «تصرفات» بعض اللبنانيين لن تقابل بالإحسان في السعودية، موضحاً نقطةً جديدةً في المشكلة: هناك نقمة في القطاع الخاص الخليجي/السعودي على اليد العاملة اللبنانية (المثقفة وغير المثقفة)، مؤكداً في الوقت عينه أن لا قرارات «رسمية» بشأن طرد أحد، مع أنَّ أي شخصٍ بسيط، يعلم علم اليقين بأنه حين تطرد «مجموعاتٍ» من الناس لانتماءاتهم العرقية أو الدينية من دولةٍ معينة، يكون الأمر «سياسياً» و»رسمياً» إلى حدٍّ كبير ولو لم يعلن عن الأمر! أرادت «أم. تي. في» وشقير أن يظهرا أن أبعاد المشكلة تتخطّى مجرّد الإشكال مع نظامٍ حاكم من أي نوع، بل تتعداه إلى العلاقة مع الشعب بحد ذاته؛ وبأنه إذا ما استمر «حزب الله» على هذا المنوال، فـ»الويل والثبور وعواقب الأمور» ستحلّ علينا جميعاً، وليس على اللبنانيين المتواجدين في الخليج فقط. التهويل الإعلامي في قضية لبنانيي الخليج جسده شقير خير تجسيد حين قال: «إذا تسكرت الحدود مع الخليج، لبنان شهر ما بيضاين». حاولت مذيعة «أم. تي. في» (ضمن لعبة الرأي والرأي الآخر الجزيراوية الشهيرة) أن تسأل: هل طرد بعض اللبنانيين (عددهم 90 تقريباً) هو جزء من رد فعل؟ طبعاً متوقعةٌ هي الإجابة، مع تجاهلٍ تام لأسعار النفط المتهاوية، والحرب السعودية المكلفة والمرهقة في اليمن، والأوضاع الاقتصادية العالمية المتردية؛ فالمشكلة الوحيدة التي يجب الإضاءة عليها هي مشكلة «حزب الله» مع السعودية. وبذلك، سار بعض الإعلام اللبناني على هذا المنوال، مسدداً على «حزب الله»، وموجّهاً دفة المقاربة صوب مسؤولية الحزب عما يحدث للبنانيين في الخليح وفي الداخل أيضاً من دون أي «ملامة» ولو خجولة للنظام السعودي!