الرباط | يمسح رجل جدران غرفة مظلمة بالماء والصابون. يدعك الحيطان لتصبح نظيفة. تبدو حركاته متوترة. شعره منفوش ولحيته طويلة. نحدس من حركة الكاميرا أنّ المهمة احتاجت إلى وقت طويل. بهذا المقطع، يفتتح نور الدين لخماري (1961) فيلمه Zero. شريط تصير قصته محاولة «للتطهر» من قذارات المدينة وآثامها.
منذ أفلامه القصيرة الأولى، رسّخ المخرج مكانته كأحد الأسماء الإخراجية الواعدة في المغرب. هذا كرّسه في باكورته الروائية الطويلة «كازانيغرا» (2008) الذي وضعه على قائمة المخرجين المثيرين للجدل ممن يصنعون حداثة جديدة للسينما المغربية. حداثة تتمثل أساساً في طابعها الحضري وتقديمها لمدينة مسكونة بالصراعات وبكائنات هشة تنزلق نحو الانحدار الدائم إلى القاع والهزائم اليومية. سينما المدينة المعاصرة التي حضرت خلال العقد الأخير في أفلام متفرقة، تشكّل لدى لخماري جوهر عمله. «صفر» هو محقق شرطة هامشي ومنهزم. تسحقه آلة السلطة التي ينتمي إليها. رئيسه عميد الشرطة وزملاؤه يسحقونه ويخرجونه من الدائرة الضيقة للمستفيدين من الامتيازات والأموال القذرة.
يعدّ الفيلم الجزء الثاني من ثلاثية حول كازابلانكا بدأت بـ«كازانيغرا»، ويعكس سكان المدينة الليليين: المهمشين واللصوص وبائعات الهوى. يبني المخرج وصفته السينمائية على تقنية الـ Travelling حيث تعبر شخوص الفيلم شوارع الدار البيضاء، إلى جانب اللقطات المقربة. ينحاز الشريط إلى مشهدية تقترب من العبور. نحن في حركة دائمة داخل متاهات المدينة، فنحس التنقل فيها مع الحركة المستمرة للكاميرا. بينما تعابير الوجوه تحضر في اللقطات المقربة. إنّها وجوه تنقسم إلى صنفين: الوجوه المنهكة لمن يعيشون في القاع، والوجوه الصلفة لمن يتاجرون باللحم البشري. بينما لا تحضر الدار البيضاء إلا عبر واجهات مباني مراكزها، تلك المدينة التي صار المغاربة يسمونها «كازانيغرا» أي المدينة السوداء.
الشرخ والتفاوت الطبقي بين الشخصيات ينعكسان في كل شيء: المطاعم الراقية والحانات الرخيصة، السيارات الفارهة والطرقات المعتمة التي تتكدس فيها الأجساد الفقيرة والزبالة. البطل الملقب بـ«الزيرو» دليل على فشله، يؤديه بتميز الممثل الشاب يونس بواب الذي تعكس ملامحه الانهيار وقلة الحيلة في المشاهد التي يقدّمها. يرعى الزيرو والده المقعد (الراحل محمد مجد في آخر أدواره) الذي ما زال يحتفظ بسماته السلطوية رغم عجزه. في أحد المقاطع، يلقّبه الابن بالديكتاتور. لعلّ عجز السلطة يشكّل رسالة من رسائل لخماري المشفّرة هنا. السلطة وإن كانت تمارس سيادتها بالقهر والسادية، إلا أنّها مقعدة في العمق و«صفر» كبير. لكن كل من يحاول الحفاظ على براءته داخل آلتها ينتهي في الهامش كما حدث مع الزيرو الذي صار محرّر محاضر أو مسؤولاً عن الأرشيف بعد إحالته على التقاعد. نجد في «زيرو» رجل شرطة مدمن كحول، وعصابة تتاجر بأجساد القاصرات، ورجال شرطة فاسدين، ووشّاماً يرسم على أجساد الفتيات أنواعاً من الفراشات تنتشر في مناطق المغرب القصية، كأنّها لتلك الفراشات المغربيات اللواتي ينسحقن تحت أجساد مريضة.
يعود لخماري في «زيرو» إلى اللغة. لغة فيلمه الأول أثارت الكثير من الجدل بسبب استعماله بذاءة الشارع وعنفه وشتائمه. هنا أيضاً، يردد الأبطال الشتائم، يصير العنف مضاعفاً. لسنا فقط أمام إكراه السلطة، بل أمام إكراه مجتمعي حيث كل واحد يداري فشله الشخصي بالتهجم على الآخر. لغة الفيلم استدرجت بعض الانتقادات ضد المخرج، لكنّها لغة الشارع كما قال. هو لم يفعل شيئاً غير عكسها على شوارع فيلمه.



نفس سردي سلس

عاش نور الدين لخماري لسنوات في النروج. في «زيرو»، يظهر تأثير طبيعة البلد الاسكندنافي. الإضاءة قليلة في أغلب لحظات الفيلم، حتى المقاطع التي تحدث في وضح النهار. كما أنّ الفيلم يمتح من روح أدب هذه الأراضي. كتب لخماري قصة وسيناريو فيلميه، لكنه تجاوز بعض «الركاكة» السردية التي شابت فيلمه الأول وحافظ على نفس سردي موحد، رغم بعض المقاطع المطولة. ومع أنّ هناك ثقلاً في بعض مقاطع «زيرو»، إلا أنّ القصة سلسة. وقد برهن المخرج عن قدرته على إدارة الممثلين. نجد أسماء ممثلين مغاربة ظهروا بعيداً عن أدوارهم الباهتة في الأفلام والمسلسلات، خصوصاً عزيز دادس الذي أدى دور عميد شرطة فاسد.