معرضٌ استعاديّ في «متحف الإنسان» (Musée de l›Homme) في باريس، يضمّ نحو أربعين عملاً لبابلو بيكاسو (1881 ــــ 1973) تحت عنوان «بيكاسو وما قبل التاريخ» يستمرّ حتى 12 حزيران (يونيو)، احتفاء بالذكرى الخمسين على وفاة رائد التكعيبية. تيمة المعرض حول تأثير فن عصور ما قبل التاريخ على أعمال المعلّم الإسباني الكبير، فأشكال الحيوانات المرسومة على جدران الكهوف والتماثيل الصغيرة، تركت أثراً بيّناً على بعض أعماله لناحيتَي الشكل والأسلوب.بيكاسو فنّان مراحل، وكلّ منها لا تذكّر بالسابقة أو اللاحقة. هو ليس شبيهاً بدالي الذي احتفظ بوحدة أسلوبه في كلّ المراحل حتى أمست تدلّ عليه من النظرة الأولى. حيويّة بيكاسو الفائقة منحته ميزة التنويع والتبديل أسلوباً ومواضيعَ. الرسم لديه تعبير جارف، حارّ، متبصّر، يستلهم المراحل والتطوّرات، ومن هنا غزارته وتعدّد المراحل في فنّه. كما أنّه لا يستقرّ على موضوع واحد أو توجّه أسلوبيّ ثابت (مثل موديلياني)، وهو غير حذر أو متردّد في إقدامه على التغيير والمفاجأة. كلّ شيء ممكن الحدوث فنياً لديه، محتفظاً بحرّيته التامة في رسم الحرب، أو المرأة، أو الجوع والفقر. تتجلّى حريته كذلك في عودته إلى الكلاسيكية التي كان تخلّى عنها للمضيّ في مشروعه التجريبيّ التكعيبيّ الفريد، من دون التوقّف عن ابتكار طرائق جديدة. فنّان يشبه الطير في طيرانه غير المحدّد الوجهة، فهو حرّ، يطير، يغطّ، يمشي، ولا أحد يسعه تقدير ما سيتبنّى لمشروعه الفنّي اللاحق.

من المعرض: «امرأة تقذف حجراً» (1931)


من المعرض: بصمة يد بيكاسو (1936)

يرسم بيكاسو بقلبه حيناً وبعينه الشكلانية حيناً آخر. يتجاوز بيسر كلّ المحرّمات (التابوهات) ولا مرجعية ثابتة لديه، فهو تأثر بالكلاسيكية وهجرها ثم عاد إليها. استلهم من الانطباعية بعض الملامح لكنّه انصرف عنها تماماً لأنّ ثمة تجديداً خاصاً كان يشتعل في داخله. أراد كسر السائد وتقديم نظرة مختلفة إلى العالم والإنسان، وخصوصاً إلى المرأة التي «شوّهها» في لوحاته التكعيبية حتى لم يبق الناظر إليها يعرف «رأسها من كعبها»! ولا إساءة هنا على الإطلاق، إذ عُرف عن بيكاسو ولعه بالنساء ومغامراته التي لا تُحصى. إنّما يبدو كأنّ «مداعبته» للمرأة تشكيلياً اتخذت تلك التكوينات الغريبة التي ترسم بسمةً أكثر مما تثير غضباً أو استهجاناً. بيكاسو ليس «ميزوجينيّاً» كارهاً للنساء كي يُساء الظنّ بغايته من رسم المرأة على هذا النحو. كأنّها مجرّد دُعابة تشكيليّة.
رسم بيكاسو «شعريّة الخراب» كما في إحدى أعظم لوحاته وأشهرها «غرينيكا» المليئة بتفاصيل الموت ووحشيّة الحروب الأهلية وكلّ الحروب. كما استوحى الأسطورة ليعيد تشكيلها بفرادته المعهودة، فهو «يعجن» أي موضوع ويعيد خلقه بلا أدنى تقليد لمن سبقوه أو عاصروه. هو نسيج وَحْدِهِ، صاحب جرأة وفرادة وتجديد وعبقرية استثنائية. قد يبدو أحياناً طفلاً يلعب بالأشكال، يركّبها ثم يعيد تركيبها، وإن ليس بانتظام وانسجام. هذا في الظاهر، أما في الجوهر فهو صاحب رؤيا ورؤية إلى العالم والبشر والحوادث الطارئة، مثلما هو شديد التأثّر بالأساطير والأقنعة الأفريقية والرسوم البدائية (موضوع المعرض الباريسي الحاليّ).


أمّا لجهة المراحل في فنّ بيكاسو فيمكن الحديث عن «المرحلة الزرقاء» (1901- 1904) التي أسّس فيها لأسلوبه الخاص بحيث أضحى اللون الأزرق رمزاً للوحشة والحزن والخواء، وأحياناً للتأمل الصامت. لعلّها المرحلة الأجمل في ما أنجز لكونها تفيض بالمعاناة والخيبة والحزن، ومفجّرها انتحار صديقه الأحبّ كاساجيماس Casagemas. كان بيكاسو كئيباً آنذاك، ولم يجد ما يحاكي ألمه في ما كان سائداً تشكيليّاً في أوروبا. ما رسمه في هذه المرحلة كان يجسّد أشخاصاً هامشيين، بوهيميين، فقراء، متسوّلين، بائعات هوى، ذوي إعاقة، مهرّجين … حتى هو نفسه عاش قدراً من البوهيميّة آنذاك، إذ كانت حياته مليئة بالحزن والسوداوية وبرودة العيش.
لقاؤه بجورج براك ساعده في تطوير أسلوبه التكعيبيّ

بل قيل إنّه كان يحرق بعض لوحاته ليتدفّأ بها بسبب العَوَز. وينقل أحد أصدقائه المقربين عنه إيمانه بأنّ الفن هو وليد الحزن والمعاناة، وأنّ الحزن يحضّ الفنان على التأمّل، وأن الصدق غير موجود خارج الشعور بالفَقد. ومن ثم انتقل إلى «المرحلة الأفريقية» التي تتميّز بتنوّع المواضيع والأساليب وتراوح بين تفاصيل الهيئات البشرية والأنواع الحيوانية والنباتات. وهذه المرحلة تُعدّ من الأبرز في مسيرته وتطوّره الفني، حتى لقائه بجورج براك الذي ساعده في تطوير أسلوبه التكعيبيّ، فتحوّل من «المرحلة الزرقاء» إلى «المرحلة التكعيبيّة» حيث الابتعاد عن الخطّ واللون الخالصين إلى أشكال أكثر تعقيداً. علماً أنّ «المرحلة الأفريقية» تتّسم بالألوان النابضة حياةً وإحساساً بالبهجة. ألوان زاهية، أقنعة، رموز، أساطير، تؤلف لوحات كبيرة حجماً. كأنّنا ننظر إلى أشياء حيّة، ومن أشهر لوحاته في تلك المرحلة Tête N’ job وفيها امرأة أفريقية مع طفلها يقف بمحاذاتها، فيما تبدو شخصية ثالثة تجري في جانب آخر. ما يضمّه المعرض الباريسي الاستعاديّ اليوم هو جزء بسيط من نحو ألفي لوحة للفنان محفوظة في كبريات المتاحف العالمية لتدلّ إلى الأبد على عظمة هذا الرسّام العبقريّ وفرادته وتنوّع إنتاجه وتناقض مزاجه تبعاً للمراحل.

* «بيكاسو وما قبل التاريخ»: حتى 12 حزيران (يونيو) ــــ Musée de l’Homme (باريس) ـــ museedel’homme.fr