من جميل الصدف أن يتزامن صدور رواية «ضد الشنفري» (دار الفارابي) للروائي مروان عبد العال ــ نسبياً ــ مع قيام سلطات العدو الصهيوني بسلب المناضل الفلسطيني صلاح الحموري هويته المقدسية، وإبعاده إلى فرنسا، بعد اعتقال إداري استمر تسعة أشهر. هذا المواطن الفلسطيني الذي آثر تراب وطنه ومدينته على كل بقاع العالم، ودّع أهله ووطنه ومحبي الحرية في العالم برسالة جاء فيها: «إنّ فلسطينيتنا خيار واختيار، وفاء وانتماء، أرض وذاكرة، مكان وزمان، فلا قرار تهجير قسري وتطهير عرقي يرهبنا، ولا يردعنا ولا يردنا عن خيارنا بالمقاومة، لا قوة في الأرض تستطيع أن تقتلع فلسطين وشعب فلسطين من عقولنا ووجداننا». ثم تابع: «أنا أغادرك اليوم يا وطني مجبراً ومكرهاً، أغادرك من السجن إلى المنفى، لكن تأكد جيداً أنني سأبقى كما عهدتني وفياً لك، حريصاً على حريتك، وسأحملك معي أينما كنت، ستبقى أنت بوصلتي الوحيدة».هذا النموذج النضالي الذي يمثله صلاح الحموري، هو النموذج النقيض لحالة التردي والنكوص – وأحياناً الخيانة – التي تعتري بعض المهاجرين أو النازحين بإرادتهم إلى أقطار الغرب أملاً في النجاة من الفقر أو الضغط الاجتماعي والسياسي وغير ذلك.
وبهذا المدخل، يمكن القول إنّ «ضد الشنفري» تعالج موضوع الهجرة والمهجرين والمهاجرين إلى دول الغرب، رغبةً في تعويض ما افتقدوه في أوطانهم أو أوطانهم البديلة. لكن الكاتب يسلط الضوء على معاناة بعضهم جراء الرصد الأمني المتواصل لهم بغية تجريدهم من هويتهم الوطنية، وثقافتهم الأصلية وحقنهم بهوية غربية بديلة وثقافة توحّدهم مع محيطهم الجغرافي الثقافي الجديد. وليس الفلسطيني وحده مستهدفاً في هذه الممارسة، فكل وافد جديد عرضة لهذا التحويل المقصود والمخطط تحت ذريعة ما يسمى بالاندماج والصهر في بوتقة الوطن الواحد.
يكتب مروان عن الفلسطيني وعن عدوه، غالباً، من دون إشارة إليهما مباشرة، كأنه أراد أن تكون الحالة الفلسطينية نموذجاً صارخاً لحالة عامة، المجرمون فيها واضحون معروفون والضحايا – بشراً وأوطاناً – ماثلون أمام أصحاب الضمير الإنساني. المعاناة البشرية – ولو على مدى القرنين الماضيين – تتواصل بفعل قوى استعمارية تقليدية وإمبريالية معولمة معاصرة، تستند إلى نظم رأسمالية تزداد تراكماً وتوحشاً. والمهاجر إلى دول الغرب الرأسمالي طمعاً في حياة أكثر يسراً وأماناً واستقراراً ورفاهاً (من حياة المخيم مثلاً) إنما يقع بين فكَّي كماشة محتملين: فك المراقبة والرصد والمتابعة اللصيقة، وفك السعي الحثيث للتجريد من الهوية الوطنية/ الثقافية. والشواهد في الرواية ماثلة للقارئ من عرب وأكراد وغجر. وما بين هذين الفكّين، هناك من يصمد وهناك من يهوي. وفي الاستراتيجيات الرأسمالية المتوحشة المباشرة، هناك عداء شرس للمنظومات الأخلاقية والإنسانية ولمن يمثلونها، إذ إنّ كل غريب وافد مستهدف بصرف النظر عن تفاصيله، طالما أنّه قادم من الكوكب الآخر، فهو في نظر الأجهزة المختصة مشروع إرهابي، أو قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة.
في سياق مماثل، يأتي اعتراف «الظل» للشنفري بأن الأول قضى معظم سنوات عمره المهني في رصد الثاني عن كثب، و«الظل» – كاستعارة هنا – كان يحصي عليه أنفاسه وخططه ومشروعاته، ونشاطاته، وأحلامه كي يتأكد من فاعلية «اللقاح» – كاستعارة أخرى – في تحقيق أهداف الأجهزة.
وإذا كانت لفظة اللقاح بصورة عامة تنطوي على مضمون إيجابي كمادة مضادة للمرض، إلا أنّها في الاستخدام الاستعاري، مجموع الاستراتيجيات والتشريعات والبرامج والدراسات وحلقات البحث والنقاش والجهود الأمنية المخططة والمنفذة بدقة بغية تجريد الغريب (المهاجر/ اللاجئ/ النازح) من هويته وثقافته. كما ينطوي «اللقاح» على الإغراءات التي تقدم للمغترب من تسهيلات، وامتيازات، ومنح مادية ومعنوية من أجل الانزلاق إلى الفخ المنصوب، والى الدوّر المعد له بذكاء واحتراف. والأجهزة الغربية التي تعمل وفق رؤية استراتيجية منسقة ومترابطة ومتكاملة ترى أنّ البديل الجاهز للهوية الوطنية للمهاجر، يتمثل في سياسة الدمج. وهنا أيضاً تبرز أدوات الترغيب والترهيب. هذا الغرب المعولم الذي يصمّ آذاننا بالتنوع الثقافي والديني والعرقي والجنسي، يحضر في الرواية محرضاً ضد الثقافات الوطنية/ القومية، داعياً للانصهار في ثقافة غربية واحدة. بل إنّ الرؤيا الأميركية، كما عبّر عن ذلك رؤساء ومسؤولون كبار، تتركز على جعل القرن العشرين قرناً أميركياً بامتياز. أمر يعني أنّ عولمة الثقافة تتطلب قوة عسكرية واقتصادية واجتماعية وإعلامية مهيمنة. وهكذا يتضح أنّ مفهوم «الاندماج» الغربي ليس إلّا تعبيراً لطيفاً عن التدجين والتبعية الشاملة.
وما دمنا في سياق تفكيك الرموز والمفاهيم، من الجدير أن نقف أمام عنوان الرواية «ضد الشنفري». ما بين السياقات التاريخية والروائية، يتساءل القارئ: ما الذي يعنيه العنوان؟ الشنفري في الرواية بطلها وساردها، هو شخصية إيجابية لأنه لقاح التغريب والتدجين وسلب الهوية، لم يفلح أحد في إسقاطه على مدى عقدين أو أكثر. ومن هنا، لن يكون الكاتب صاحب الموقف المعادي للشنفري، والعدو الحقيقي لهذه الشخصية هو الغرب بعامة، وسلطات «جزيرة شلومو»، ورجل الأمن الذي كانت مهمته الوحيدة على مدى عشرين عاماً مراقبة الشنفري ورصد سكناته وحركاته. وبذلك يكون هو «الضد» المباشر، حتى لكأن هذا الضد يسمح للكاتب أن يختار عنواناً آخر للرواية هو «ظل الشنفري»، لأن الفكرة الأساسية والمذهلة في الرواية ليست عملية التجسّس بحد ذاتها، فتلك ممارسة معروفة وسائدة في العالم، ولكن أن تختار أجهزة الأمن واحداً من عناصرها ليتابع شخصاً مهاجراً واحداً فقط طوال مدة خدمته، فتلك هي الفكرة الصادمة، ثم يأتي بعد عقدين ليعترف بتلك المهمة للشنفري ذاته، في خطوة تشي بنوع من عودة الوعي أو تأنيب الضمير.
أمّا لماذا اختار الكاتب اسم الشنفري بالذات، فلعلّ ذلك يرجع إلى إعجاب الكاتب بسيرة الشنفري كشاعر مناضل في سبيل الحرية وضد مجتمعه الساكن وثورته عليه وهجائه في «لامية العرب».
تستمر لعبة الكاتب في استخدام الرموز والاستعارات لتصل إلى الموقع الجغرافي الذي عاش فيه الشنفري وآخرون في أحد الأقطار الغربية، وهو جزيرة«شلومو«» والجزيرة كلفظة قائمة بذاتها توحي بالحصار من جميع الجهات. أما «شلومو»، فالإحالة واضحة إلى العدو الصهيوني، ما يعني أنّ هذه «الجمهورية/ الجزيرة» محكومة بالسياسات والاستراتيجيات والمصالح الصهيونية، لتصل في نهاية المطاف إلى حالة التماهي مع الكيان على المستويات كافة.
يتصدر موضوع الهوية واستلابها والاغتراب الناجم عن فقدانها، القضايا الأخرى المتضمنة في الرواية. وفي السياق الفلسطيني، تغدو الأمور شديدة التعقيد والخطورة، ذلك أنّ الهوية الثقافية - الوطنية بالنسبة إلى الفلسطيني، تمثل حالة حياة أو موت لأنها محور الصراع مع العدو الذي سحب الأرض والممتلكات من تحت أقدام الكثير من الفلسطينيين، ففقدوا بذلك الوطن بكل معانيه ودلالاته. لو تتبعنا - مثلاً ـ مسار حياة أسرة شردت من قريتها في فلسطين ثم لجأت إلى مخيم في لبنان، ثم تمكنت من الهجرة إلى قطر أوروبي، سنجد أنّ هذه الأسرة كانت ضحية لقوى ثلاث: الأولى القوة الصهيونية الطاردة بالاحتلال، والثانية القوة (المضيفة الأولى): المستقبلة على مضض والطاردة في الوقت عينه. أما القوة الثالثة (المضيفة الثانية)، فهي ترحّب بالأسرة المهاجرة للاستهلاك الإعلامي وقيم أخرى يتغنّى بها الغرب. هنا تمّ إبعاد الأسرة عن محيطها الأول والثاني، وأصبحت في بيئة مغايرة لن تكون محايدة معها، وربما تنجح في تفكيك علاقة الأسرة بالتاريخ والجغرافيا والثقافة. ليس هذا قدراً بالطبع، والفلسطيني بعامة حريص على هويته وثقافته وارتباطه بقضيته. وليس الفلسطيني وحده المستهدف في هذا السياق، لأن الرواية تحيلنا إلى حالات عربية وكردية وغجرية كانت ضحايا إسقاط الهوية والتدجين.
الهوية الثقافية الوطنية بالنسبة إلى الفلسطيني، تمثّل حالة حياة أو موت


تقدم الرواية شخصية مقابلة للشنفري، فإذا كان الشنفري قد نجا من اللقاح المضاد للهوية، يقع حنظلة في فخ هارون (لاحظ دلالة الاسم). حنظلة صار تاجراً ثرياً، ترصّده هارون ثم جرّه إلى عالم المقامرة حتى صار معسراً ومتسولاً، ومهووساً بتصور نفسه زعيماً. وهنا بدأ الأثر النفسي على الضحية الذي فقد ذاته وممتلكاته. ولا شك في أنّ الآثار النفسية على المهاجرين الذين يعجزون عن تحقيق التوازن النفسي في بيئة مغايرة للبيئة الأصلية، تتنوع من شخص إلى آخر، فهناك من يصاب بالجرح النرجسي، أو الشعور بالدونية، أو الخصاء، أو التماهي مع السلطة الحاكمة في بلد الهجرة، والنماذج الكردية والغجرية في الرواية أدلّة على ذلك.
«ضد الشنفرى» عمل أدبي يستند إلى المضمون بما تحتويه من موضوعات أساسية فكرية ترسخ البقاء في الوطن، وتحذّر من أنّ الفراديس المقصودة غالباً ما تنتهي إلى مقابر للكرامة والهوية. وهي من شكلها وبنائها، أقرب إلى عمل محمول على شظايا سردية تستدعي من القارئ يقظة وانتباهاً ووعياً فنياً في إعادة بناء تلك الشظايا في معمار فني يعيد ترتيب السرد بما يجمع شتات الأحداث والشخصيات.