«منى طراد دبجي» (مكتبة أنطوان) اسمٌ وعنوانٌ لكتاب أنيق، غنيّ المضمون، صدر حديثاً يعرّفنا بدقّة تفصيليّة إلى تشكيليّة لبنانيّة عادت بعد خمسة عشر عاماً من المنفى، لتغمس روحها وريشتها في سماء بلدها وبحره وسكون طبيعته. الكتاب في 280 صفحة تهبنا صورة عن التحوّلات الفنّية التي شهدتها مسيرة دبجي المتميزة بالحرّية وبإطلاق أهواء الأنثى جسداً وفتوناً وحسيّة عالية، ترافقها قطّتها في معظم اللحظات كأنهما تتقاسمان العزلة نفسها في مساحات داخلية ذات ملامح شرقيّة، أو تحت أشعّة الشمس الدافئة، أو فوق السجّاد الذي يعزّز المناخ الاستشراقي.
منى طراد دبجي ــ «الجنة الضائعة» (زيت على كانفاس ـــــ 120 × 100 سنتم ـــ 2022)

منى دبجي خريجة قسم الفنون الجميلة في الجامعة الأميركية (1975) في بيروت، مدينتها الأثيرة التي لم تغادرها حتّى خلال الحرب الأهليّة، مستمرّة في الرسم وإقامة المعارض. لطالما دارت ثيماتها التشكيليّة حول التقاليد اللبنانية إطاراً وعناصر تتوسّطها المرأة دوماً، فتبدو عاشقةً لأمرين: أنوثتها والإطار الاستشراقي، كأنّها في سعي دؤوب ومستمرّ إلى محو ذاكرة الحرب بالجميل، بالمرأة، بفتنة الجسد العاري الحرّ، المتمدّد والمرتاح في وضعيّات وأمكنة مختلفة، لا تهمل في الخلفيّة جمع الأبواب والنوافذ التي خلّعها دمار الحرب والانفجارات. تبعث التكوينات التشكيليّة المزخرفة ذات النزعة البرجوازية، ولادةً جديدةً للمكان المدمّر عبر الزخرفات «الأرابيسكيّة» والألوان الحارّة الفرحة النابضة بالحياة. الكتاب لا يترك مللاً في العين، أو ما هو أخطر، أي الشعور بوجود تقارب في الأعمال يخفف الاهتمام بصورة ملونة مع تقليب صفحاته.
يؤكّد على تعلّقها الثابت والمتجدّد بالمكان الذي يريح امرأتها الحرّة لـ «تمارس» عُريها الكامل في تحدّ للواقع وتضادّ مع قبحه وقسوته ودماره. لا تقبل منى بأيّ تقييد لحرّية المرأة وانسجامها التامّ مع جسدها المستمتع بمختلف لحظات الحريّة، مستلقيةً فوق سجادة تقرأ، أو فوق سرير للراحة والتأمل، أو جالسة تداعب قطّتها… وإنْ كشفت عن توالي الفصول فيها، حيث الشتاء ينصرم والربيع يُطلّ جَزِلاً، لتبدّل المرأة وضعياتها وسط الشجر المزهر والطيور المغرّدة. تحتسي قهوتها، تحمل مسبحةً، أو «لابتوب»، كأنّها تعد نفسها بزمن أفضل آتٍ مفعم بالأمل.

منى طراد دبجي ـــ «عمر الخيّام وقت القيلولة» (زيت على كانفاس ـــــ 12.7 × 152.4 × 203.2 سنتم ــــ 2013)

الواقعية تسم رسوماتها للمرأة في مختلف أحوالها، الحميمة، المهنيّة، وسواهما، من العاملة في الحقول إلى المرأة المثيرة الحالمة في إطار من الفخامة والنفخ في «الشيشة» أو حمل الهاتف الذكيّ …لوحات استشراقية من صنع فنانة مشرقيّة تلحّ على فرديّتها وحرّيتها. تقول: «كان جان أوغوست دومينيك انغر وهنري ماتيس يحلمان بعالم مماثل من النساء، رغم أنّ حلمهما لم يتجسّد في حياتهما. أرغب في رسم عالم حقيقيّ للمرأة من داخل حياتها اليومية، ما يخلق تعقيدات مركّبة لا يسع أي مستشرق أن يحلم به».
كتاب منى طراد دبجي مكوّن من سلسلة لوحات حيّة لنساء مشرقيّات داخل حميميّة منازلهنّ، يقرأن رباعيات عمر الخيّام المتهتّكة، أو مسترخيات فقط. أما هاجس الفنانة، فهو تجسيد حرّية المرأة الشرقية وأحلامها العصرّية، على الرغم من ضمور تلك الحرّية والأحلام في بعض البيئات الراسخة في تخلّفها حتى الآن. جسد المرأة العارية لديها متكوّر، مملوء بالفتنة، ذو خطوط واستدارات متقنة لإبراز مفاتن جسد المرأة الشرقية بلا وَجَل أو خَجَلٍ أو تابو مانع. لا تخفي منى تأثّرها بأعمال انغر إلى حدّ ما لناحية المناخات وحالات التأمّل، وترى أنّ نساء اليوم لَسْنَ تقليديّات بل مختلفات في أزمنة الحداثة والتواصل الاجتماعي وأدواتها المتعدّدة. تنقل امرأتها الشرقية من مناخات لبنان المعتدلة إلى مناطق حارّة تحت تأثير نساء غوغان التاهيتيّات، مع فرق وضع نسائها داخل الصالونات الاستشراقية، وليس وسط الطبيعة الحارّة وعناصرها الطبيعيّة كما لدى غوغان.
لا دلالة جنسيّة للعري بقدر ما هو تمجيد لجمال المرأة الشرقيّة


منابع التأثر لدى الفنانة تعود إلى مرحلة ما بعد الانطباعيّة. لوحاتها بسيطة، معبّرة، معاصرة، أمّا العري فلا دلالة جنسيّة له بقدر ما هو تمجيد لجمال جسد المرأة الشرقيّة. بيد أنّنا نلاحظ جانباً قد يكون سلبيّاً، إذ تبدو لوحاتها متناسخة، الواحدة عن الأخرى، على وقع نزعة برجوازيّة ناعمة ربما يعوزها المزيد من التنويع والخيال كي لا تهتزّ الثيمة وتقع في الرتابة. مع ذلك، لا يسعنا إلا الثناء على الإتقان في الخطوط المنسابة والملوانة الزخرفيّة والأرابيسكيّة.
وفي الكتاب أيضاً سردٌ مفصّل للأنشطة الفنيّة والثقافيّة التي شاركت فيها منى دبجي في تماهٍ مستمرّ مع ثيماتها واهتماماتها وهواجسها الأنثوية كامرأة تعيش كامل حرّيتها في التعبير الفنّي. في المحصّلة كتاب جذّاب، فاخر، مليء باللوحات والألوان التي تشكّل فرادة أسلوبها وملوانتها وإرادتها الواعية هنا والتلقائية هناك.