لدى عودته من نيويورك إلى الهند في الثمانينيات، حيث عمل أستاذاً للعلوم السياسية في «جامعة نهرو»، بدأ اهتمام المفكر إعجاز أحمد (1941 ـــــ 2022) بنظريات ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية واللبرلة يتخذ مساراً نقدياً واضحاً، اعتمد فيه على قراءته العميقة لنقد إدوارد سعيد المؤسّس للاستشراق، إلى جانب كتابات الناقد الأدبي الماركسي فريدريك جيمسون. المنظّر الماركسي صاحب «في زمننا: إمبراطورية، سياسات، ثقافة» (فيرسو ــــ 2007)، رحل عن عالمنا أخيراً، بعدما ترك أثراً وبصمة في النظرية النقدية. أحمد الذي وُلِد في الهند (ولاية أُتَر برديش) عندما كانت شبه القارة مُستعمرةً بريطانية، ارتحلَ بُعيد استقلال الهند (1947) إلى باكستان التي بدورها أعلنت انفصالها عن الهند في العام نفسه. ومن باكستان انطلقَ صوبَ أكاديميّات المركز الغربي للدراسة في الولايات المُتّحدة وكندا، قبل أن يعمل باحثاً وأستاذاً في جامعات عدة بين العاصمة الهنديّة نيودلهي وتورونتو الكنديّة، وأخيراً كاليفورنيا وجامعتها (2017) حيثُ انتهى به المطاف أُستاذاً في قسم الأدب المُقارن. لخّصَ أحمد في شخصِه حدوداً معرفيّة عدّة. بحكمِ أُصولِه الهندية، وإتقانِه الأوردية لغة وطنِه، اقتربَ من حقل الدراسات ما بعد الكولونياليّة، تلك المدرسة التي لو أردنا موازاتَها بتمثيل عربي سنقول المدرسة السعيدية، نسبةً إلى إدوارد سعيد (1935-2003)، ولو أنّ الأدوات التي استخدمتها في دراسة العلاقة بين المُستَعمَرين بمُستعمِريهم تُصنّف كمزيج بين مفهومَي الطبقة والأمّة القومية. وهذا ما توقّف عنده أحمد نقديّاً. لذا فإنّ المقاربة التي تجمع أحمد بأعلام «مدرسة التابع» من راناجيت غوها (1922)، مروراً بغاياتري سيبيفاك (1942)، وصولاً إلى ديبيش تشاكرافارتي (1948)، هي مقاربة جيليّة فقط. أمّا في حال توخّينا الدّقة النّظرية والتصنيف المدرسي، فإنّ أحمد حضرَ بوصفهِ مُشتبكاً نقديّاً صارماً مع التّيار السّعيدي برمّته، ومع المَعْلَمَة الأبرز لهذا التيار أي كتاب «الاستشراق» الذي أصدره إدوارد سعيد عام 1978، بل مع الاستشراق بوصفه منهجاً وُجِدَتْ آثارُ أدواتِه عند مدرسة التّابع الهنديّة نفسها. خلقَ «الاستشراق» تاريخاً جديداً في أكاديميات المتروبول الغربي لما تضمّنَه من شجاعة، ما انقطع صاحبُه عن توفيرها في شتّى المحافل حتى الرمق الأخير من حياته بُعيد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وفي الوقت الذي شُنّت فيه حملات التشنيع والتهديد التي قادَها صهاينة ويمين متطرف في الدوائر الأنغلو-أميركية ضد سعيد، وفُتِحَ الباب على مصراعيه للنيل منه، كان هناك موقف فاحصٌ تحرِّكُه الرّوح النقدية في التفتيش المنهجي عمّا وراء «الاستشراق» من أدوات معرفيّة، أو أسلوبيّة. هذا الموقف تشرّبَ الشجاعة السعيديّة سياسيّاً، فناصرَ فلسطين وقضيّتها من دون التفريط بما بذلَه «الاستشراق» من موقف يُخلخل الدعاية المركزيّة الاستعمارية، بمعنى أنّ النقدية هنا مُتأثّرة بالمنقود نفسه، من غير أن تبخسَه مكانته المعرفية، ولا أن تزاوِد عليه سواء في المنهج والفهم، من نوعية ما يُثار من نقد هزيل لسعيد اليوم. لذا انفتح قوس النقد الماركسي انطلاقاً من مهدي عامل في «الاستشراق في تأويل إدوارد سعيد» مروراً بصادق جلال العظم «الاستشراق معكوساً»، مُستغلّاً مقولات كان سعيد بنفسه قد صرّح بها في نقد الجوهرانية، ومحاوِلاً إنشاء هيكل نقدي بالاتّكاء على منقوده، لتبقى الكلمة الفصل عند هذا التيار الماركسي المشتبك مع سعيد، هي لإعجاز أحمد الذي جادَل موضوعة الاستشراق الكبرى وتمثيلاتِها في عملين «الاستشراق وما بعده» و«في النّظرية... طبقات، أمم، آداب .1992» (ترجمهما إلى العربية ثائر ديب، صدر الثاني عن المركز العربي، 2019).
تكثّفَتِ المآخذ الماركسية على عَمل سعيد من حيث تعامله مع ماركس بنسقية التيارات ما بعد البنيويّة. وهُنا يشير أحمد إلى ما تُعانيه القراءة السعيدية مما سمّاه بـ «بلاغة الإهمال» فبمقطع صغير، حسم سعيد تموضعَ ماركس الجوهري في الخطاب الغربي الاستعماري الذي يرى في الاستعمار طريقاً للتّحرُّر/ كما يرى في المُستعمِر مُستعذباً السُّبات، إنّه تموضُعُ الانتماء إلى الخطاب واستحالة الفكاك منه. وحسب أحمد، فإنّ منهجيّة البنيويين الأثيرة هذه تبنّاها سعيد بطريقة فيها من التعميم سمحت له بتمزيق ماركس بانتقائية مفرطة إلى قِطعٍ متناثرة، وهي لا تُفصح عن قراءة كاملة مُتمعّنة، إنّما تنتهي إلى «تأويل» بتعبير عامل الذي استعار مصطلحات المخبر الفيلولوجي وهو يلوحُ كخلفية شفافة وراء تعاطي سعيد مع ماركس، أو سننتهي إلى «بلاغة إهمال»، وكلا التوصيفين يغمزان من قناة اللّغة، للتدليل على ما فرّط به سعيد من أدوات ماركسية قوامُها التحليل المادّي والاقتصادي.
في الوقت عينِه، يؤكّد أحمد أنّ ما حشدَه سعيد من مقولات غرامشية (نسبةً إلى المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي) في كتابه لا تشفع له؛ إذ لم تكشف سوى عن مثابرة في منهج التعميم الذي انطلق منه سعيد، إلا إذا عُدنا إلى الاحتكام لمنطق التجزيء، فسيستحيل سعيد ماركسياً بقدر ما يبقى ماركس قابعاً في خانة المستشرق الغربي الذي تُكبّلُه قيود الخطاب وأبديّة النّسق، مثله كمثل المستشرق الصهيوني المتطرف برنارد لويس! بمعنى آخر، إنّ منهج سعيد في الجمع بين اللاإنسانوية المتمثّلة بميشال فوكو من جهة، والتحليل الإنسانوي عند إيريك أورباخ لا يؤدي سوى إلى نتائج مُضَيّعة، بدل الالتزام بواحد منهما.
لم تقتصر أطروحات «في النّظرية» على الاشتباك مع سعيد من مواقع ماركسية، بل حضر نقدُ مقولة المنفى وتمثيلاتِه التي روّج لها الروائي سلمان رُشدي في روايته «العار» (1983). هنا أقامَ أحمد حُجّتَه النقدية على مساءلة دعوى المنفى إن كانت مشروطة بالحتميّة، أو يُمكنُ تعريضُها لمنحى الإرادة، فتأخذ عندها طابع الهجرة، ما عدا ما تُفضي إليه من حالة فرط الانتماءات على حساب الثقافة الوطنية. وفي هذا الملمح يتجلّى تفكيك خطابات العولمة الكونيّة ونقد الأصل، حيث تنظر مراكز الميتروبول وتيارات ما بعد الحداثة إلى الأصل بوصفه أسطورة والحضور على أنّه ميتافيزيقا، ما يمنع رشدي ومَن في حُكمِه، من الاعتراف بآلام الانفصال عن المجتمع الأصلي. كذلك اتخذ أحمد موقفاً شكّاكاً من تماسُك الأدب الهندي ومحدّداته التعريفية في ظل سيادة اللغة الإنكليزية التي تُقابل عدداً كبيراً من اللغات القومية في الهند، بمعنى أنّ هذا الأدب يرتكز إلى إنتلجنسيا قائمة على أساس متين هي اللغة الإنكليزيّة، وهذا هو الأدب الوحيد الذي يُدرّس في طول البلاد وعرضها. والأنكى أنّه لا يُدرّس من خلال ما يُكتب في الهند، بل من خلال ما يأتي من غير مكان. عليه، فالتّخلّف كما يحدُّه أحمد قائم في أقسام دراسة ومقارنة اللغات والآداب الهندية.
اشتبك مع إدوارد سعيد من مواقع ماركسية، ونقض مقولة المنفى وتمثيلاتِه التي روّج لها سلمان رُشدي


قدّم أحمد أيضاً ــــ بالارتباط مع المفاهيم النقدية السابقة ــــــ ما رأى أنّه نهاية للجدل بصدد نظرية العوالم الثلاثة، التي لم تكن سوى قسمة بالية بعد إعادة التشكيل والهيكلة التي خضع لها العالم منذ مطالع التسعينيات. أمّا الهيبة الحقيقيّة لمصطلح العالم الثالث، فهو مُستمدّ برأيه من زمن الثورة الثقافية في الصين وما لعبه راديكاليون جامعيّون ذوو هوى ماوي في بثّ هذه «الإيديولوجيا العجيبة» أواخر الستينيات. وعبر هذا النّقد، ينفذُ أحمد إلى تفكيك خطاب الدولة القوميّة البورجوازية واستحالة أن تكون مُجابِهة للإمبرياليّة إلّا إذا تنظّمت فيها قوى النّضال الاشتراكي الأُممي على مستوى سياسي شعبي. وهذا ما قاربَهُ في حوار جمعه بسمير أمين عام 2012 كان محوره النّظر في ما يجري على الساحة العربية من حروب تؤسّس فيها الإمبريالية للكثير من التدخلات. بهذا، فإنّ صاحب «الطائفيّة والعولمة» (2002) و«العراق وأفغانستان وإمبريالية زماننا» (2004) كان يستحقّ بالفعل ما قاله تيري إيغلتون عنه: إنْ كان بعضُ النّقاد نسوا أمر الماركسية، فإنّ الماركسية بتجليها المُفحم والشجاع وغير الدارج في نقد إعجاز أحمد، لم تنسَ أمرهُم.