مقالات مرتبطة
تكثّفَتِ المآخذ الماركسية على عَمل سعيد من حيث تعامله مع ماركس بنسقية التيارات ما بعد البنيويّة. وهُنا يشير أحمد إلى ما تُعانيه القراءة السعيدية مما سمّاه بـ «بلاغة الإهمال» فبمقطع صغير، حسم سعيد تموضعَ ماركس الجوهري في الخطاب الغربي الاستعماري الذي يرى في الاستعمار طريقاً للتّحرُّر/ كما يرى في المُستعمِر مُستعذباً السُّبات، إنّه تموضُعُ الانتماء إلى الخطاب واستحالة الفكاك منه. وحسب أحمد، فإنّ منهجيّة البنيويين الأثيرة هذه تبنّاها سعيد بطريقة فيها من التعميم سمحت له بتمزيق ماركس بانتقائية مفرطة إلى قِطعٍ متناثرة، وهي لا تُفصح عن قراءة كاملة مُتمعّنة، إنّما تنتهي إلى «تأويل» بتعبير عامل الذي استعار مصطلحات المخبر الفيلولوجي وهو يلوحُ كخلفية شفافة وراء تعاطي سعيد مع ماركس، أو سننتهي إلى «بلاغة إهمال»، وكلا التوصيفين يغمزان من قناة اللّغة، للتدليل على ما فرّط به سعيد من أدوات ماركسية قوامُها التحليل المادّي والاقتصادي.
في الوقت عينِه، يؤكّد أحمد أنّ ما حشدَه سعيد من مقولات غرامشية (نسبةً إلى المفكر الماركسي أنطونيو غرامشي) في كتابه لا تشفع له؛ إذ لم تكشف سوى عن مثابرة في منهج التعميم الذي انطلق منه سعيد، إلا إذا عُدنا إلى الاحتكام لمنطق التجزيء، فسيستحيل سعيد ماركسياً بقدر ما يبقى ماركس قابعاً في خانة المستشرق الغربي الذي تُكبّلُه قيود الخطاب وأبديّة النّسق، مثله كمثل المستشرق الصهيوني المتطرف برنارد لويس! بمعنى آخر، إنّ منهج سعيد في الجمع بين اللاإنسانوية المتمثّلة بميشال فوكو من جهة، والتحليل الإنسانوي عند إيريك أورباخ لا يؤدي سوى إلى نتائج مُضَيّعة، بدل الالتزام بواحد منهما.
لم تقتصر أطروحات «في النّظرية» على الاشتباك مع سعيد من مواقع ماركسية، بل حضر نقدُ مقولة المنفى وتمثيلاتِه التي روّج لها الروائي سلمان رُشدي في روايته «العار» (1983). هنا أقامَ أحمد حُجّتَه النقدية على مساءلة دعوى المنفى إن كانت مشروطة بالحتميّة، أو يُمكنُ تعريضُها لمنحى الإرادة، فتأخذ عندها طابع الهجرة، ما عدا ما تُفضي إليه من حالة فرط الانتماءات على حساب الثقافة الوطنية. وفي هذا الملمح يتجلّى تفكيك خطابات العولمة الكونيّة ونقد الأصل، حيث تنظر مراكز الميتروبول وتيارات ما بعد الحداثة إلى الأصل بوصفه أسطورة والحضور على أنّه ميتافيزيقا، ما يمنع رشدي ومَن في حُكمِه، من الاعتراف بآلام الانفصال عن المجتمع الأصلي. كذلك اتخذ أحمد موقفاً شكّاكاً من تماسُك الأدب الهندي ومحدّداته التعريفية في ظل سيادة اللغة الإنكليزية التي تُقابل عدداً كبيراً من اللغات القومية في الهند، بمعنى أنّ هذا الأدب يرتكز إلى إنتلجنسيا قائمة على أساس متين هي اللغة الإنكليزيّة، وهذا هو الأدب الوحيد الذي يُدرّس في طول البلاد وعرضها. والأنكى أنّه لا يُدرّس من خلال ما يُكتب في الهند، بل من خلال ما يأتي من غير مكان. عليه، فالتّخلّف كما يحدُّه أحمد قائم في أقسام دراسة ومقارنة اللغات والآداب الهندية.
اشتبك مع إدوارد سعيد من مواقع ماركسية، ونقض مقولة المنفى وتمثيلاتِه التي روّج لها سلمان رُشدي
قدّم أحمد أيضاً ــــ بالارتباط مع المفاهيم النقدية السابقة ــــــ ما رأى أنّه نهاية للجدل بصدد نظرية العوالم الثلاثة، التي لم تكن سوى قسمة بالية بعد إعادة التشكيل والهيكلة التي خضع لها العالم منذ مطالع التسعينيات. أمّا الهيبة الحقيقيّة لمصطلح العالم الثالث، فهو مُستمدّ برأيه من زمن الثورة الثقافية في الصين وما لعبه راديكاليون جامعيّون ذوو هوى ماوي في بثّ هذه «الإيديولوجيا العجيبة» أواخر الستينيات. وعبر هذا النّقد، ينفذُ أحمد إلى تفكيك خطاب الدولة القوميّة البورجوازية واستحالة أن تكون مُجابِهة للإمبرياليّة إلّا إذا تنظّمت فيها قوى النّضال الاشتراكي الأُممي على مستوى سياسي شعبي. وهذا ما قاربَهُ في حوار جمعه بسمير أمين عام 2012 كان محوره النّظر في ما يجري على الساحة العربية من حروب تؤسّس فيها الإمبريالية للكثير من التدخلات. بهذا، فإنّ صاحب «الطائفيّة والعولمة» (2002) و«العراق وأفغانستان وإمبريالية زماننا» (2004) كان يستحقّ بالفعل ما قاله تيري إيغلتون عنه: إنْ كان بعضُ النّقاد نسوا أمر الماركسية، فإنّ الماركسية بتجليها المُفحم والشجاع وغير الدارج في نقد إعجاز أحمد، لم تنسَ أمرهُم.