تُطبِق الأزمات الاقتصادية على متنفّسات الثقافة وصناعتها في سوريا والعراق ولبنان. الدول الثلاث التي كانت عواصم مركزيّة لدُور النشر والمعارض، باتت تُكافح للحفاظ على ما تبقّى لها من رَمق ثقافي في ظلّ تفشّي الأوبئة وهجرة الطبقة المُتعلّمة، وتهديد الغلاء الفاحش لشرائح واسعة من المجتمع. رغم ما تعيشُه كلّ مدينة على حدة من حِصارات معيشية وسياسية خانقة، تبقى هناك محاولات حثيثة لترميم واقع سوق الكتاب وإنتاجه، لذا يصبح الحديث عنها من باب الواجب للتذكير أنّ دَعاوى «موت الثقافة» والتّباكي على الأطلال، لا تُجدي نفعاً بقدر ما تُخلي السّاحة لسيادة اليأس والابتذال. البداية مع بغداد، إذ برز ترميم شارع المُتنبّي بوصفه إشعاراً لانطلاقة ثقافية جديدة مع بداية 2022، ويندرج الترميم ضمن مشروع «نهضة بغداد». الشارع يُعدّ مصنعَ الثقافة العراقية الحديثة منذ تأسيسه عام 1932، حيثُ تتحوّل المكتبات على جوانبه والأرصفة المُفترشَة بشتّى أصناف الكتُب إلى مقام رفيع ومنابر لنشر الفكر والاختلاف. فظاهرة افتراش الكتب تبقى التعبير الأقرب لتمازُج الثقافة وقربها من النّاس لا تعاليها عليهم. كما عاد أشهر مقاهي المتنبي («الشهبندر» و«ملتقى الأسطورة») بالإضافة إلى المركز الثقافي البغدادي، وهو أحد المعالم التي استهدفها الترميم، لتشهد إقبالَ قُرّاء وزوّار من مناطق شتّى، في حين ينتصبُ تمثال شاعر العربية أبي الطّيب المتنبي، كأنّه شاهد على كلّ العصور المتناقضة التي مرّت وتداولت على البلد وأهلها: الأفول مقابل النّهضة، موت الثقافة مقابل القيامة، التفجيرات كما حدث عام 2007 مع استهداف الشارع بسيّارة مفخّخة خلّفت أكثر من 30 قتيلاً، مقابل الترميم والانبعاث من جديد مع بدايات 2022.
أمّا واقع الحال الثقافي في دمشق، فيستمر بالتأثُّر بما تشهدُه البلاد من غلاء فاحش. تتصدّر أخبار إغلاق بعض المكتبات في دمشق «تريندات» وسائل التواصل، كان آخر فصولها إغلاق «مكتبة نوبل» أبوابها خريف العام المنصرم. وقد سبقتها إلى ذلك مكتبات أُخرى منها «اليقظة العربية» (تأسّست عام 1939)، ومكتبة «ميسلون»، ومكتبة «عالم المعرفة» التي أسّستها عائلة النّوري عام 2000. أمّا معرض الكتاب السّوري، فقد توقّف مع الجائحة لعامين على التوالي، وهو معرض مختلف عن المعرض الذي تُقيمه «دار الأسد» بشكل سنوي أيضاً، قبل أن يعودَ أخيراً بدورة جديدة بدعم من وزارة الثقافة، إلى جانب معارض محلّية بعيدة عن مركز العاصمة تُقام في المدن السورية الأخرى.
بالوصول إلى بيروت، فالحديث الذي يطغى على المشهد، مزيجٌ من أسى دمشقي وترميم بغدادي، حيثُ تُعاني السّاحة الثقافيّة من تَبِعات مُركّبة ومتداخلة بين أزمة اقتصادية وكارثة انفجار المرفأ والجائحة الصحيّة. في هذا السياق، يأتي خبر إغلاق مكتبة «واي إن» في شارع الحمرا، أبوابَها آخر هذا الشّهر بعد نصف قرن على التأسيس، كأنّه خبر يؤكّد حالة الاستثناء التي تمتدّ إلى أجلٍ غير واضح. وقبلها أُغلقت مكتبتا «البرج»، و«النجمة» في شارع المقدسي، ومكتبات أخرى اضطرّت لمُداراة الإغلاق إمّا بالتحوّل إلى بيع القرطاسية التي تؤمّن مصاريف الإيجارات الباهظة، وإما بالانتقال من مقرّاتِها المعروفة إلى أخرى أقل كلفة.
لكن في مقابل موجة الإغلاقات، يأتي «معرض بيروت للكتاب» ليرمِّمَ صورة المدينة المتأذّية ولمّ شمل الناشرين في قاعة «سي سايد» ولهذا رمزيّته أيضاً، كون القاعة قد تعرّضت لضرر كبير جرّاء انفجار المرفأ. ورغمَ ما يتخلّل هذا المعرض من إشكاليات تنظيمية، إلّا أنّه يبقى بارقة أمل، تُعيد أوكسيجين الثقافة إلى رئة المدينة، وإثبات قدرة بيروت على المنافسة بمعرضها العريق، مقابل معارض إقليمية ناشئة في مدن الموضة و«الترفيه» التي هي أبعد ما تكون عن الثقافة الحقّة.