«الموسيقى غذاء للروح». تكاد تكون كلمات الفنان الفلسطيني يوسف البراغيث، لدى حديثه عن أثر الموسيقى عليه، صدى لكتابات الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي رأى أنّ الموسيقى شرط تراسندالي سابق للغة. كما ربط الموسيقى بما تعنيه «الإرادة». وصل به الأمر إلى تحديدها كصورة بدائية لوجودنا بذاته. بذلك، يكون التعرّف إلى الموسيقى هو التعرَف إلى ذواتنا الدفينة. وقناعات يوسف ثابتة، خصوصاً بعد انتسابه إلى فرقة «المنفيين» وتمرّسه بالعزف فيها.من منفيين من بلادهم بسبب لعنة الحروب التي ألمّت بأوطانهم، إلى لاجئين إلى أحضان الموسيقى التي لمّت شملهم تحت عباءتها، فرقة حملت باسمها سِمتهم الجامعة: «المنفيين». انطلقت فرقة «المنفيين» الموسيقية من مخيَمات صور في جنوب لبنان. كانت البداية هواية يمارسونها للتأقلم مع واقعهم المرير ولتعديل صورة اللاجئ النمطية. لقد أرادوا تظهير حقيقة أخرى للاجئين ألا وهي أنهم فنانون يتقنون فنون الغناء والعزف وإدخال الفرح إلى جميع القلوب.
تحوّلت ممارساتهم الفردية من أجل التسلية من حين إلى آخر، إلى عزف جماعي منسّق ارتسمت أول مشاهده خلال سهرة تراثية، فكان أوّل عرض لهم كفرقة واحدة موحّدة. يشير الشاب الفلسطيني السوري المنتمي إلى الفرقة محمد عاصي إلى أنه انضمّ إلى «المنفيين» بهدف مشاركة موهبته وأفكاره مع أشخاص آخرين يخوضون غمار التجربة ذاتها، فإذا به يستفيد من خبرات الآخرين ومن انفتاح لم يختبر مثيلاً له من قبل، بتعرّفه إلى أشخاص جدد من مختلف المناطق، ما حفّز لديه ميزة التواصل الإيجابي مع الآخرين المنتمين إلى بيئات مختلفة عن محيطه. فقد شاركت الفرقة في العديد من الإقامات الفنية وورشات العمل مع عدد كبير من الفنانين والموسيقيين، مما ساعد أفرادها على اكتساب مزيد من المهارات، وذاع صيتهم في الوسط الفنّي. تعرّض أعضاء الفرقة، كسائر الموسيقيين، لبعض التحدّيات خلال مسيرتهم الفنية، خصوصاً تلك التي تفرضها الأزمة الراهنة. فمنهم من غادرها بداعي الهجرة هرباً من الأوضاع المعيشية المتردية في لبنان، وآخرون لم يحبّذوا نوع الموسيقى المعتمد. كما أوضح البراغيث أنّ من الصعوبات الأخرى التي واجهتها الفرقة كيفية صنع هويّة لنفسها، فقد كان العزف عشوائياً في بادئ الأمر، من دون تحديد نوع الموسيقى الذي يجب الالتزام به، وصولاً إلى اتباع نموذج «التخت الشرقي». كما شكّلت قلّة مصادر التمويل عائقاً أمام إمكانية اتصال الفرقة بالمحترفين والتنسيق معهم.
تقيم الفرقة ورش عمل للطلاب المهتمين بالموسيقى


هدف «المنفيين» مساعدة الموسيقيين المبتدئين ليطوّروا أداءهم ويعمّقوا خبرتهم. وتحقيقاً لهذه الغاية، نظمت الفرقة ورش عمل للطلاب المهتمين بالموسيقى من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، يتمّ خلالها مساعدتهم على تحديد هويتهم الموسيقية، وتعريفهم على خصائص «التخت الشرقي»، وإطلاعهم على كيفية تصنيع الآلات وعلى أنواعها وتاريخها. كما تسهم الفرقة في توفير الدعم النفسي والاجتماعي لكبار السن في «مؤسسة عامل» وتنظم نشاط «تجوال المنفيين»، فيزور أعضاؤها مختلف المناطق اللبنانية لشرح حقيقة الفن الفلسطيني والتعريف به عبر الأغنية التراثية والقطع الموسيقية المتنوّعة وخلق تفاعل بين الناس والموسيقيين أنفسهم.
تكثر قصص النجاح في أوساط اللاجئين وتبيّن مدى اندفاعهم إلى استغلال الفرص كافةً للتطوّر على الصعيد الشخصي، وللاندماج في محيط قد يفتقر إلى مقوّمات الضيافة، ولمساعدة الآخرين على سلوك هذا المسار. لقد بلغ فعل مثل هذه المبادرات وتأثيرها الإيجابي في المجتمعات اللاجئة والمضيفة مدى واسعاً. بفضلها، تتعزّز علاقات التقارب والتآلف. فكما تتعدّد الآلات والنوتات، إلّا أنها تصنع معزوفة متجانسة، كذلك تكثر الاختلافات الاجتماعية، لكن التقاءها يخلق تنوّعاً مميّزاً. وما فرقة «المنفيين» إلا وحدة وإلفة وتجانس عناصر اختلفت مشاربها والتقت مساراتها، فتحوّلت العفوية إلى إبهار والمنفى إلى وطن.