يُمثّل موقف الفيلسوف يورغن هابرماس الرافض لـ «جائزة الشيخ زايد» حالة استثناء تكشف الواقع الثقافي العربي العام، وتسلط الضوء على بؤسه وانحطاطه. ألم يقُل الفيلسوف كيركغارد مرة: «إذا أردنا أن ندرس الحالة العامة بشكل صحيح، يكفي أن نبحث عن استثناء حقيقي، إنه يسلّط على كلّ شيء ضوءاً أشدّ سُطوعاً من العام» (1).
أين هي منجزات الحداثة في مشيخة الإمارات التي «تنسجم» مع منجزات الحداثة التي يدافع عنها يورغن هابرماس؟

أين يكمن الاستثناء؟ جرى العمل منذ ظهور الطفرة النفطية على بناء علاقة متينة بين المثقف العربي وسلطات الخليج، أي بين المثقف من جهة والأمير/ الشيخ/ الملك من جهة أخرى. مُدّت الجسور بين الطرفين، تخلّلتها صعوبات، وخاصة في حقبة صعود حركة التحرر العربية. لكن مع انحسار هذه الحركة وسقوط التجربة الاشتراكية، غدت العملية أسهل، لا سيما بعد التأزيم والتخلّع الذي أصاب أهم الدول العربية إثر توظيف الانتفاضات العربية من قبل المراكز الرأسمالية التي استخدمت جيوبها الوظيفية، وفي مقدمتها السلطات المسيطرة في الخليج العربي لخدمة مشروعها في ترسيخ التبعية وتعميق التخلع لاستمرار النهب.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
هكذا أصبحت المؤسسات الثقافية والإعلامية المموّلة من سلطات الخليج العربي تتنافس على استقطاب المثقفين، واستطاعت بالفعل أن تكسب في مراكزها ومؤسساتها أهم المفكرين والباحثين العرب، فحقّقت نجاحاً مبهراً، بدليل أنك تشعر عندما تقرأ النتاج النقدي الفكري والسياسي لمعظم النخب العربية بأنه لا وجود لدول الخليج العربي في خارطة العالم العربي. من هنا تبرز أهمية رفض هابرماس واستثنائيته. فنحن لم نشهد منذ زمن طويل فعل رفض لعملية الاستقطاب البترودولاري. لذلك ما إن أعلن الفيلسوف الألماني رفضه الجائزةَ حتى انطلقت الردود التي شكّكت في معظمها في شخص الفيلسوف الألماني وراحت تنبش في نصوصه علّها تعثر على ما يثير نقمة الشارع العربي، من زياراته إلى الكيان الصهيوني وصولاً إلى موقفه المهادن للكيان. وذهبت قضية رفضه الاستثنائية أدراج الرياح، وما عاد مهمّاً رفض جائزة من مؤسسة مرتبطة بسلطة خليجية رجعية أسهمت في تحويل حياة قسم كبير من العرب إلى حياة عارية، وتابعة تبعية مطلقة للمراكز الرأسمالية الإمبريالية ومنفّذة لأوامرها بشكل جليّ منذ ظهورها برعاية الإمبريالية البريطانية حتى الآن (آخر مشاريع هذه السلطة إكمال مسيرة التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني وتحويله من كيان غاصب إلى شريك وجار مسالم، واستطاعت أن تشتري الصمت عن مشروعها بشكل ناجح لدرجة أنه شمل أيضاً بعض المنابر الإعلامية والسياسية التي تنتمي إلى «محور المقاومة»، بخاصة بعد إعادة فتح سفارة هذه السلطة في سوريا والتناغم بعد قطيعة مع مواقع مهمة من هذا المحور).
لنفصّل أكثر في طبيعة الردود التي بلغ بعضها درجة الوضوح في إعلان الرضوخ لهذه السلطة الرجعية بشكل يدفع الذهن إلى استدعاء المقولة الشهيرة «اللعب أصبح على المكشوف». وكان رد الدكتور أحمد برقاوي الموسوم: «أكثر من عتاب إلى هابرماس»، أكثرها جرأة في الكشف عن ارتهان المثقف العربي لأوامر نمط الإنتاج الرأسمالي التابع بشكله الأكثر انحطاطاً. ففي هذا الرد، تحولت الإمارات إلى دولة في طور الحداثة بفضل قيادتها الرشيدة من آل زايد ومكتوم، وتحول يورغن هابرماس إلى أورو-مركزي لا يرى هذه الحداثة ولا يلمسها لأنه ينطلق من أنوية غربية عنصرية. يكتب برقاوي: «ونجحت هذه الدولة بفضل رؤية مؤسسيها وقيادتها الرشيدة والعقل التحديثي أن تبني نفسها مادياً وثقافياً على فكرة المواطنة. وكانت سرعة التحديث من بناء المدن ومؤسسات الدولة كبيرة جداً، أكبر من سرعة الحداثة على الطريقة الأوروبية» (2).
ينسى برقاوي المقيم في دبي نصوصه السابقة التي فكك فيها طبيعة الحداثة الشكلية في دول الخليج العربي، لنقتبس من نصوصه قبل إقامته في دبي ونترك للقارئ عملية المقارنة. يكتب برقاوي (المقيم في دمشق هذه المرة والمدّرس في جامعتها) مفكّكاً طبيعة السلطات الحاكمة في دول الخليج: «فريع النفط قد نقل الشيوخ من مجرد زعماء تقليديين بحكم السلطة الناتجة عن العدد والسن والعلاقات الخارجية، إلى طبقة تتحكم بالسوق. إنها الآن مالكة رأس المال. فحولت أقطارها إلى مجرد أسواق تقوم هي بوظيفة شهبندر التجار. فالبنوك والوكالات وأجهزة الاتصال وعمليات الوساطة، بين السوق المحلية والسوق العالمية كل ذلك ممتلك أساساً من العائلة - الطبقة» (3). ويتابع مفسراً غياب الرفض الشعبي في دول الخليج لسلطاتها التابعة بسبين: «القمع... والحيلولة دون إنتاج آليات تعبير سياسية مدنية عن الرفض، والسبب الثاني: الثروة الطائلة التي تنعكس بهذا الشكل أو ذاك على مجموع السكان قليلي العدد». (4) وفي السياق ذاته، يتابع برقاوي الدمشقي، بعبارات واضحة التناقض مع نص برقاوي المقيم في دبي، ويكتب مميزاً بين نمطين من الدول العربية: «دول ما زالت في أقصى درجات التبعية وفاقدة للسيادة الوطنية كدول الخليج، ودول تسعى إلى تأكيد سيادتها الوطنية كالعراق ومصر وسوريا» (5). لنقارن عزيزي القارئ الاقتباس الأخير مع ما كتبه في رده الذي يهاجم فيه رفض يورغن هابرماس الاستثنائي، يكتب برقاوي نسخة دبي: «فالإمارات العربية انتقلت من بنية قديمة إلى بنية جديدة وليس العكس كما في الدولة التسلطية النكوصية التي قطعت مع البنى الحداثوية الوليدة، وأعادت المجتمعات إلى البنى التسلطية» (6).
نحن لم نشهد منذ زمن طويل فعل رفض لعملية الاستقطاب البترودولاري


يبدو أن تحولاً قد جرى خلال السنوات التي فصلت بين النصين (نص دمشق ونص دبي) ونحن العرب لا نعلم به. فقد تحولت دولة الإمارات - ربما بقدرة ربانية - في ذهن الدكتور برقاوي من الاقتصاد الريعي التابع إلى الاقتصاد المستقل الحديث وتجاوزت البنية المتخلفة التابعة لتدخل بنية الحداثة. لا يكتفي برقاوي نسخة دبي في هجومه على هابرماس بالدفاع عن واحدة من أعتى السلطات العربية رجعية، بل يستخدم مقولات ماركس في دفاعه المتهافت محدِّداً أن دخول الحداثة له شروطه التاريخية لكي يثبت فرادة تجربة الإمارات في دخول بنية الحداثة بعيداً من أورو-مركزية هابرماس، يكتب: «لقد أشار ماركس... إلى أن أي تشكيلة اجتماعية جديدة لا يمكن أن تنتصر إلا إذا نمت في أحشاء التشكيلة القديمة» (7). يغيّب برقاوي بشكل مقصود التصور المادي للتاريخ السائد في معظم كتاباته الدمشقية والذي يقرأ نص ماركس السابق في ضوء انحطاط الطبقة البرجوازية منذ عام ١٨٤٨ كما أكد ماركس في كتاباته التحليلية لثورة ١٨٤٨ في فرنسا، وفي فضاء دخول الرأسمالية طور الإمبريالية (طور الاحتكار وانقسام العالم إلى مراكز وأطراف تابعة لها) وذلك مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبالتالي لا يمكن لأي دولة عربية طرفية رأسمالية تابعة ضمن هذا الشرط التاريخي أن تنتقل إلى بنية الحداثة الحقيقية من دون قطع التبعية مع المركز الرأسمالي الإمبريالي. ومن ثم أين هي منجزات الحداثة التي يراها برقاوي في مشيخة الإمارات التي تنسجم (على حد تعبير برقاوي نسخة دبي) مع منجزات الحداثة التي يدافع عنها يورغن هابرماس؟ ربما يقصد ناطحات السحاب وبرج خليفة أو مدينة دبي بوصفها أكبر مركز لغسيل الأموال، أو العلاقات القبلية والعشائرية، أو القواعد العسكرية الأميركية، أو الثقافة الرجعية المُستحضِرة من التراث لمفاهيم ومرجعيات تخدم سيطرة هذه العائلة – الطبقة على حد تعبير برقاوي نسخة دمشق... والله أعلم. (لا بد من التأكيد في هذا السياق على ضرورة رصد النزعات الإمبريالية الثقافية أو الأورو-مركزية في الأطروحات الفلسفية الغربية، ولكن خارج سياق الدفاع عن الطبقة البرجوازية التابعة المسيطرة في العالم العربي.)
بعد تفكيك أحد أهم الردود على رفض هابرماس الاستثنائي، لنناقش مسألة القبول والرفض للجوائز المموّلة من سلطات رجعية ومتخلفة وتابعة والتي هي بالمقام الأول مسألة إتيقية سياسية. قبول مفكر جائزة من هذا النوع لا يقتضي بالضرورة انسجام نصوصه ونتاجه مع من يقف خلف هذه الجائزة، ولكن على الأقل يضطر المفكر والباحث حينئذ إلى أن يصبح أكثر لُيونة وتنازلاً أمام السلطة التي تموّل هذه الجائزة. أليس هذا هو حال المفكر العربي الكبير عبد الله العروي الذي قبل «جائزة الشيخ زايد» في عام 2017، فوضعه هذا القبول أمام مشكلة مفادها عدم الاتساق بين فكره وفكر القائمين على الجائزة على أقل تقدير؟ ومن ثم هل يمكن للعروي (إذا تكلمنا بمصطلحاته) بعد قبوله هذا أن يتهم دولة الإمارات وسلطتها بالمساهمة الفعالة في التأخر التاريخي العربي وفي نشر الوعي المشيخي؟ إذا كانت تلك هي حدود مشكلة قبول العروي للجائزة، فإن نصوص غيره من النخب الفكرية التي حصلت على «جائزة الشيخ زايد» كانت في المقابل منسجمة مع القائمين على الجائزة من الناحية السياسية. فالمفكر محمد شحرور - الحاصل على «جائزة الشيخ زايد للتنمية وبناء الدولة» عام 2017 - لا يفوت فرصة إلا ويذكّر القارئ لنصوصه بالأدوار التاريخية للشيخ زايد بن سلطان والملك عبد العزيز آل سعود وأنور السادات في حين يعدّ عبد الناصر وماو تسي تونغ وستالين رموزاً للطغيان والاستبداد. كما أنه بطريقة طريفة يعطي الشرعية لسلطات دول الخليج العربي ويسقطها عن بقية الدول العربية، مع أن هذه الدول الخليجية بالجملة تتناقض كلياً مع نموذجه الليبرالي المستعار من النصوص التبسيطية عن فلاسفة العقد الاجتماعي (8).
فالمشكلة تكمن في نهاية التحليل في القبول وليس في الرفض، وإن جاء هذا الأخير بعد قبول أولي، فرفض هابرماس جاء بناء على خلفيات تخدم المشروع الثقافي النقدي الاجتماعي التغييري. وإذا عُدنا إلى قائمة أسماء الفائزين بجائزة الشيخ زايد، نكتشف أهمية رفض الفيلسوف الألماني للجائزة حيث سنجد شخصيات تفتقد إلى التكوين الثقافي الحقيقي (مثل: عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عام 2014، ومحمد بن راشد آل مكتوم عام 2015). أمر يجعلنا ندرك أن هذه المؤسسة ليست معنية بالثقافة إلا كغطاء لمشروع سياسي غايته استقطاب المثقفين لتعطيل دورهم في معارضة الواقع السياسي الاجتماعي والثقافي القائم.
أحدث الرفض الاستثنائي للفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس إرباكاً واضحاً في سيطرة المؤسسات الثقافية المدعومة من سلطات الخليج العربي. وإذا جمعنا رفض هابرماس الاستثنائي لـ «جائزة الشيخ زايد للكتاب» (رفض الاستبداد) مع رفض الروائي المصري صنع الله إبراهيم لـ «جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي» عام 2003 (رفض للاستبداد والتبعية) مع انسحاب الشاعر المغربي محمد بنيس من «الهيئة العلمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب» احتجاجاً على اتفاقية التطبيع (رفض التصهين)، عندها نحصل على جبهة إتيقية مقاومة متكاملة.

المراجع:
1- أغامبين، جورجيو. المنبوذ – السلطة السيادية والحياة العارية، ترجمة عبد العزيز العيادي، منشورات الجمل، بيروت، ص 32، 33.
2- برقاوي، أحمد. أكثر من عتاب إلى هابرماس، 2021. http://hattpost.com
3- برقاوي، أحمد. دفاعاً عن الأمة والمستقبل. دار الأهالي، دمشق، 1999، ص 170.
4- المرجع السابق، ص 170.
5- المرجع السابق، ص 168.
6- برقاوي، أحمد. أكثر من عتاب إلى هابرماس.
7- المرجع السابق.
8- انظر: شحرور، محمد. الدين والسلطة، دار الساقي، بيروت، 2014، ص 361، 409، 410، 438، 439.