قد يبدو لبعض متتبّعي مسيرة مي المصري أنّ الروائي الطويل الأول في الفيلموغرافيا الخاصّة بها قد تأخّر. بعد سنوات من العمل الوثائقي منفردةً، أو مع زوجها السينمائي اللبناني جان شمعون، تخطو المخرجة الفلسطينية فوق أرض مغايرة فنياً، لكنّها مكمّلة لمشروعها، خصوصاً في ما يتعلّق بالمرأة والطفل. تكتب السيناريو بنفسها، ليخرج «3000 ليلة» (103 د)، عن قصص حقيقية لأسيرات فلسطينيات في سجون الاحتلال الإسرائيلي، منهنّ روضة البصير وتيريز هلسة. العمل الذي يختتم "مهرجان السينما الأوروبية" في بيروت، دراما سجون تحتضن الكثير من الحكايا والتفاصيل والإحالات. نفس تسجيلي لمخرجة آتية من هذا الملعب، بعناوين مثل «أطفال شاتيلا» (1998) و«أحلام المنفى» (2001) و«33 يوماً» (2007)، وأكثر من 60 جائزة دولية.
في ليل نابلس 1980، تعتقل المدرّسة «ليال» (ميساء عبد الهادي) بتهمة مساعدة فتى فلسطيني متهم بقتل جندي إسرائيلي. يصدر ضدّها حكم بالسجن 8 سنوات، فتنضمّ إلى عدد من الأسيرات الفلسطينيات، منهنّ «سناء» (نادرة عمران) المعتقلة إثر تنفيذ عملية ضدّ الاحتلال. للسجن وضع خاص. إنّه مشترك بين فلسطينيات وإسرائيليات يمضين عقوبات جنائيّة. هؤلاء يتلقّين معاملةً خاصّة بطبيعة الحال (احتياجات، لباس مدني...)، فضلاً عن تلاصق سجني النساء والرجال، واشتراكهما في جدار واحد.
تبدأ المصائب بالتوالي فوق رأس «ليال». هي محل شك «سناء»، بسبب سماح إدارة السجن لها بالاتصال بزوجها مباشرةً، ما يستدعي سؤالاً حول ثمن ذلك. الأدهى أنّها حامل. يشترك الزوج مع سلطات الاحتلال في الرغبة بإلاجهاض. يغادر إلى كندا، تاركاً «ليال» لولادة مجنزرة إلى قضبان السرير في مشفى السجن. الصغير «نور» بهجة الأسيرات. ينمو تحت عسف الاحتلال، كأنّ له ألف أم. في نظر الإسرائيليات، هذا «إرهابي» جديد يصل إلى العالم.
تدريجاً، تتحوّل شخصية «ليال» من معلّمة مسكينة تحاول تجنّب المشاكل، إلى فاعلة في عالم السجن ويومياته. تصل أخبار اجتياح بيروت 1982، وتقع مجازر صبرا وشاتيلا، لتعلن الأسيرات إضراباً مفتوحاً في وجه الاحتلال. في المستشفى، تتعرّف «ليال» إلى «أيمن» الذي لا يتأخر في إظهار حبّه لها. دراما من لحم ودم، تغلّف القضية لحمايتها من التلقين والنمط. هذا ما دأبت عليه السينما الفلسطينية الجديدة منذ بدايات ميشيل خليفي.
على الجانب الآخر، هناك إسرائيليات متباينات الطبع والحدّة والشراسة، من الكارهة حتى الأقصى، إلى المتحوّلة إيجاباً، وصولاً إلى المحامية «راشيل» التي تدافع عن الفلسطينيين رغم فقدانها ابناً في خضمّ الصراع. هو نفس اسم إحدى أشهر المحاميات الإسرائيليات التي دافعت مبكراً عن الأسرى الفلسطينيين. هذا ذكاء يُحسَب لمي المصري في الأنسنة وكسر النمط. الواقع القاتم يفرض جرعة قليلةً من الميلودراما. كان يمكن لبعض التفاصيل الصغيرة والمشاجرات أن تكون أكثر تكثيفاً، دون أن ينفي هذا نجاح الإيقاع في اصطياد المتفرّج حتى النهاية.
رموز التحرّر والخلاص حاضرة برفق ورويّة، منها العصفور، والحصان ذو الأجنحة، والأسماء، والرسم على جدار السجن الانفرادي. وهناك نشيد «يا ظلام السجن خيّم» الذي ألّفه السوري نجيب الريّس، متحدّياً الاحتلال الفرنسي من منفاه في جزيرة أرواد عام 1922. على مستوى الأداء، تؤكّد ميساء عبد الهادي أنّها ممثّلة من معدن نفيس. مع نادرة عمران ورائدة أدون وعبير حداد وهيفاء الآغا وأناهيد فياض والممثّلات من عرب الـ48، يحملن الفيلم على أكتافهنّ.
«3000 ليلة» يعيدنا إلى المقاومة كما يجب أن تكون. بين 1980 و1988 (فترة الفيلم التي تصوّر للمرة الأولى من هذه الرؤية)، لم يكن لأوسلو وجود رغم كل الهزائم. العمل الفدائي مفتوح أمام النساء كما الرجال، أمام اليسار كما الجميع. تحسين ظروف الاعتقال يتحقق بالإضراب. تحرير الأسرى يتمّ بالمبادلة لا الاستجداء. لا مساومات سياسيّة هزيلة، أو احتكار للمقاومة باسم الجهاد الديني.

* «3000 ليلة» لمي المصري: 21:30 مساء 6 شباط (فباير) ــ عرض أول في «متروبوليس أمبير صوفيل»