فما الذي حصل مع فن «العالم السفلي» لدينا نحن العرب وفي إنتاجاتنا الدرامية والفنية التي تتّجه هذا الاتجاه؟ كيف انقلبت القواعد وانعكست القيم بكل هذه الجرأة والصفاقة؟ إننا هنا لسنا أمام فنّ واقعيّ يكشف ويحلل ويوضح لا بل «يعرّي» عالماً مُزرياً قذراً كما يجب أن يكون! لا بل أمام أعمال إنتاجية مضخمة ومنفوخة نفخاً اصطناعياً، مسخّرة بشكل كامل للإشادة والتلميع بواقع عالم هو ليس إلّا الذروة المتطرفة لفظاعات الرأسمالية وقباحاتها، مع جهد جهيد لتصوير «زعرانه» على أنهم «أبطال»، وحملة مبادئ وقيم، لا بل أصحاب رسالات وفعلة خير!
عند كوبولا حيث تُعرض الكاركتيرات في قسوتها وضراوتها كنماذج للتحذير الاجتماعي والفضح عبر رؤى درامية وإخراجية متقدمة، نجد هنا فناً واقعياً رفيعاً نسبياً قيد التقديم. نجد في مقابل ذلك أنّ أعمالنا المحلية والعربية حول أدب العالم السفلي، أقلّ ما يمكن وصفها فيه أنها تجارية، تبلغ ذروتها في إنتاجات مسلسل «الهيبة» خصوصاً ومجمل نتاجات شركة «الصباح» عموماً. منافسة لا بل حرص على تكريس «نجومية» البطل الذي يجب أن نحبّه ونعجب ونتعاطف معه بوصفه مثلاً أعلى ونموذجاً لا بل قدوة حسنة، خاصة للفئات العمرية الشابة المراهقة. فيتحوّل التشهير وتسليط الضوء إلى تسويق. تسويق وتشريع لوجود هذه الفئات المتطرفة. بحسب المنطق الأعوج لهذه المسلسلات التي يخرج بها علينا كتّاب مثل السيد عكو أو السلكا أو البرقاوي، فإن «أبطال» هذا العالم معذورون! لقد اتّخذوا طريق العصابات والتشليح والمخدرات بسبب «إهمال الدولة»، لا بل في بعض الحالات لأسباب رومانسية بحتة، مثل مسائل الشرف والثأر وغيرها من السخافات التي يطرشونها في أعمالهم الضحلة هذه.
لا تعتقد أن كلّ الزعران زعران عزيزي المشاهد! لا... فهناك «مهربجي» شريف وcute ويجب أن تحبه ولا مشكلة حتى إن اقتديت به، وأنت محظوظ إذا تشرّفت بالعمل معه. في المقابل هناك بعض هؤلاء الخارجين عن القانون «زعران» فعلاً، هم الذين لم يرضَ عنهم المخرج لأسباب لا نعلمها. طبعاً كلّ ذلك معروض في سياق درامي جدير بأفلام الرسوم المتحركة، والكاوبوي كصراع لـ «خير» ما ضد الشر!
ما الذي حصل مع فنّ «العالم السفلي» لدينا نحن العرب في إنتاجاتنا الدرامية؟
إنها عملية تلميع اجتماعي مدعومة بحملات تسويقية وإنتاجية ضخمة، لصورة بيئة هي ذات أثر تخريبي مريع على جميع الصعد والمستويات، مثل تخريب الاقتصادات الوطنية وعمليات التهريب التي تنخر في بنية اقتصادات المنطقة كما السوس الذي يفرغها تماماً من أي محتوى إنتاجي أو تجاري، أو كما السرطان الذي أنهكها وصولاً إلى نقي العظام، أو على مستوى الطائفية والعشائرية وإثارة النعرات وطبيعة الزعامات فيها، فكل بيئة تهريب في كل بلد نجدها قائمة على أسس قبلية واضحة ذات أثر مدمر أكيد على أي سمة من سمات المجتمع المدني...
بالنسبة إلى المشرفين على هذه الأعمال الصعبة على الفهم، لا يوجد «أبطال» في المجتمع لعرض نماذجهم والترويج لقيمهم، لا في فئات وشرائح المثقفين ولا الأكاديميين، ولا المناضلين الوطنيين، ولا الفنانين، لا بل هم حصراً موجودون في بيئة المهربين وسادة المعابر وزعماء العصابات!
في هذا النوع، لا يتم اتّخاذ بيئة المهربين وقاطعي الطرق كـ «مسرح» درامي لفضح وتعرية هذه البيئة وتصوير حقيقتها القذرة ودورها المعادي للمجتمع وللتقدم ولأيّ شكل من أشكال الحضارة الإنسانية. لا بل يعملون بشكل تهريجي خالص على عرض نُبل وشرف وشهامة (!) هذا العالم وهذه البيئات بسذاجة مطلقة. لكن هل هي سذاجة فعلاً؟ أم لعل الأجوبة العميقة دوماً ما تَبلُغ الأجندات السياسية؟
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا