الدخول إلى عالم العمل الجديد لعازفة الفيولون اللبنانية ليال شاكر، هو كالدخول إلى بقية أعمالها السابقة. لا يتم ذلك بأسلوب سماع تقليدي أبداً، بل بتوازي لمضمون العمل لحنياً وبفعالية نقدية تقاربه فنياً بطريقة ذات علاقة بشكله أولاً وبمضمونه ثانياً، ابتداءً من العنوان وانتهاءً بآخر نوتة فيه. أسوق هذا الكلام ونحن نتابعها حيث تنشط في أوروبا وأميركا ونستقبل عملها الجديد «تفاعيل» بشكل مختلف عما استقبلنا فيه أعمالها السابقة. إذ يجنح جديدها هذا صوب الشعر، ليس فقط كموقف وذوق فني، بل كخيار وموقف إنساني ووطني تنتمي له ليال وتختاره بعناية... هي الشابة الآتية من الشرق (من جنوب لبنان تحديداً)، الذاهبة إليه موسيقياً بالموقف والجذور، ولو من باب التقنية الغربية. هي لا تريد أن تقطع مع شرقها الذي تحبّه وتحياه موسيقياً لناحية مقاماته وإيقاعاته وحتى الـ «إنترفال» الموسيقي الخاص الذي تطرقه أحياناً بباب الفكر الذي تعيشه في أوروبا بمعاصرة لا تنسى مرجعيتها وجذورها المتجذّرة في وعيها ولاوعيها معاً! كيف نترجم هذا الكلام أمام قراءة نقدية مُحِبّة لعملها المتفرّد هذا؟ أعتقد أن ترجمة عملية لهذا الكلام يجب أن تبدأ من العنوان الذي يصنف العمل بقوة لافتة تحت عنوان خاص مميز وجديد. وهذا العنوان هو «تفاعيل» اسم عربي بقلبه وروحه، بسرّ مضمونه، وتحديداً ببنى الشعر العربي وبحوره وتقطيعاته. «تفاعيل» إذن؟! ماذا تطوي لنا ليال في تفاعيل هذا العمل؟ من يعرف ليال وما يشغل تفكيرها كفنانة وموسيقية، لن يستغرب ميلها الدائم للبحث في ماهية الموسيقى بشكل عام والموسيقى التي تعمل عليها بشكل خاص. من أين تستمدّ هذه الموسيقى جذورها الفنية وروحها الأزلية مثلاً؟ كيف تتغير في طريقها من الماضي إلى المستقبل عبر حاضرنا؟ كيف يكتب كمانها بأبجديته الموسيقية لغة عصرها الذي تحياه فكرياً وهي تحتفل به في وعيها الخاص وتروي سيرته بكمانها كما تروي قصة حلمها؟ هل يمكن أن نجد في «تفاعيل» أجوبة لعلاقة الموسيقى بالشعر؟ هل التلحين وحده مثلاً هو أحد وجوه هذه العلاقة؟ ما هي بقية الوجوه الأخرى؟ وهل هناك مدخل إليه بالشعر لتخرج الموسيقى عبره منتظمة برواية ما؟ وهل يكون بانتظامها بالتفعيلة وبحورها الموقّعة فراهيدياً مثلاً؟ أسئلة كثيرة شغلت بالها وبال فنانين وموسيقيين غيرها، قد لا يكونون قد بحثوا عن أجوبتهم بنفس الفكر والرؤيا وعلى أوتار آلة الكمان. لكن مهلاً؟ هل ستدخل ليال إلى تلك الأسئلة بكمانها عبر «تفاعيل» هذا لتجيب بطريقة تقليدية... وهي الفتاة التي تعزف الموسيقى بأكثر الطرق انفتاحاً على الحداثة؟ لندخل العمل الجديد إذن ونسمع اقتراحاتها عبره كفنانة تذهب إلى التجربة الشعرية لـ «تفاعيل» بنصوص وقصائد لشعراء عرب ذات تقطيعات حملت لها الهامات لتنبيض موسيقي pulsating عملت عليه باجتهاد مفتوح على ما وجدته مثيراً لطرح أجوبة موسيقية مفتوحة على تلك الأسئلة الشعرية لتلك النصوص بتفاعيلها، فمن هم هؤلاء الشعراء وما هي تلك النصوص؟ السيّاب كان الأول في مقطوعتها الأولى Return to Jaykur (العودة إلى جايكور): تبدأ الجُمل محمولة على إيقاع رباعي يقلّد أوزان السياب انسيابياً مع بداية الجملة الأولى، لتكسر قوقعتها الرباعية تلك قبل نهاية الماسورة وتعود لحياكة تغيرات في الإيقاع الذي يتغير بشكل يلهث عن عمد إلى التغيير قبل أن تبدأ بالجملة الثالثة فالرابعة... وتنتهي دائماً بكسر الوزن.
المقطوعة الثانية «عشاق» اختارت لها ليال عمداً مقام العشاق ليبدأ من الارتجال بتقسيمه على مقام العشاق نفسه. توقّعه بنبض مرتجل أيضاً، وهي تمر على نبض يتغير على ٥ /٤ ثم على ١٠ /٤ ثم على ١٣/٨ ثم على ٤/٤... كلها أوجدتها ليال بتقسيم اللحن والإيقاع. القطعة الثالثة Relentless تدخل بإيقاعاتها على ٥/٤ وعلى ٤/٤ وعلى ٧/٨ مبني كنبض على تقطيع لقصيدة مؤثرة جداً للماغوط يقول فيها: «أخذوا سيفي كمحارب، وقلمي كشاعر، وريشتي كرسام، وقيثارتي كغجري... وأعادوا لي كل شيء وأنا في الطريق إلى المقبرة. ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة؟». المقطوعة الرابعة Interlude- half light تذهب إلى التجريد الذي يقارب أعمالاً من موسيقى الحجرة الأوركسترالية، لتقارب أفكار «الاتونال» لكن بحذر.
المقطوعة الخامسة متتالية مخمس تتخذ من موتيف «حول يا غنام» كموضوع موسيقي لبناني الهوى استنبطته ليال بعد فترة بحث، وهي تقارب اللون الشعبي وعلاقته بالبدوي بطريقة جريئة وأسلوب لا تقليدي تتميز بهما ليال. إذ تلعب بالإيقاع متغيّراً من نبضه المعروف ليصير على ٤/٢ وعلى ٨/٥ فتنساب الجملة غنائياً بلون مختلف على بوح الكمان الذي بدا يغني كأنه ذو حروف صوتية. المقطوعة السادسة «أفراح الضنيّة» هي أيضاً متتالية مخمّس تعمل عليها على أساس تقطيعات الدبكة اللبنانية الشمالية التي تتميز بها أفراح الضنية.
المقطوعة السابعة متتالية مخمّس أيضاً على تيمة أغنية «يا فجر لما تطل». تتعامل بها بمرونة تغير الإيقاع كأنها تُمْغِطُه من ٤/٣ إلى ٤/٤ وبِعُرَبْ (مكتوبة) كأنها مغناة على النهاوند ليصل إلينا المقطع الثاني بالتشيلو، لنظنه يرتجل المقطع بينما هو مقطع سولو مكتوب، ينضم له كمان ليال ليعزفا معاً ما يشبه مواويل نهاوندية الهوى.
القطعة الثامنة المعنونة باسم A light here تبتعد فيها عن الأفكار اللحنية. تعزف ليال أفكاراً إيقاعية الهوى تبتعد في أجوائها عن الأفكار التقليدية فوق صوت الآلات الإيقاعية التي تصيغ أجواء هذه المقطوعة منذ البداية على مبدأ الإيقاعات البوليريتميكية.
المقطوعة الأخيرة المسماة «على جذع زيتونة» مبنية على شعر لتوفيق زياد تعود عبره ليال إلى طبيعتها التي عرفناها في أعمالها السابقة حيث تبني أجواء هارمونية تشبه عالم الأضواء كخلايا ضوئية تحيك منها أنسجة تضيء كبقع لونية تتراكم وهي تبحث عن شكلها كأنها تريد أن تقول عوالمها الصوتية من لغة قديمة تتوسل لغة عصرها الجديد موسيقياً بإيقاعات الروح المنفتحة على البحث عن صدى لهوية قديمة ما زالت متآلفة بتفاعلات لونية هارمونية تلوّنها بأصابعها على زند أوتار كمانها. وهي تجمع به شظايانا المبعثرة من كون منسي ينهض في ذاكرتها المشرقنة بالحداثة، ليعود جديداً حراً لا يعترف بحدود ولا يكون أسيراً لماض! إذن باختصار عمل ليال الجديد «تفاعيل» هو عمل حر قد يشعر المستمعان الغربي والشرقي أنه قادم إليهما من مكانين مختلفين يرتبطان إيجابياً بإرادة التفاعل بحب بحثاً عن منطقة مشتركة تقول إنسانيتها في الاقتراب من الذات تماماً بالابتعاد عنها كما حدد به الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي سفر المتصوفة إلى الحبيب وهو يسير منه إليه. أقول هذا بعد سماعي كل أعمال ليال وحضوري لأكثرية حفلاتها في أوروبا وثم معرفتي الشخصية بها ومتابعتي لنشاطاتها المستمرة في مسارح أوروبية عدة أثمرت عن احترام كبير من تلك المنابر والمسارح والمجلات، أهمها مجلة الموسيقى الكلاسيكية للـ BBC التي أعلنتها كنجمة صاعدة في عالم العزف والكتابة لآلة الكمان. وأثمرت نشاطات ليال عن جوائز عدة إحداها من «مؤسسة آفاق» لإنتاج هذا الشريط مثلاً. وحصدت ليال تكليفات من مسارح موسيقية ألمانية وهولندية وفرنسية وأميركية كلفتها رسمياً بتأليف وكتابة مقطوعات لآلة الكمان تم عزفها على تلك المنابر، وتأليفات أخرى سيتم عزفها في المستقبل على هذه المسارح. لذلك ربما يمكن أن نفهم أن ليال فنانة لا يمكن أن تنضبط في شرنقة التفكير التقليدي إلا بعد أخذ روح هذا التقليد والذهاب به بحثاً عن مفهوم زمنها. زمنها في هذا الحاضر الذي تسعى لتحاكيه موسيقياً وهي تتوسل روحه المحلية والعالمية وترحل بينهما إلى لغتها الواقعية التي تواجهها دائماً بأسئلة التجدد والمعاصرة!
في «على جذع زيتونة» المبنية على شعر لتوفيق زياد، تعود ليال إلى طبيعتها التي عرفناها في أعمالها السابقة


هل تسعى روحها لإعادة قول ما تشتهيه من الماضي بتفاعل جديد مع كمانها وهو يقول الحاضر بلغة تتمرد على مفردات تريد تفكيكها لتعيد تركيبها بشكل ترضي فيه روحها وعصرها وطموحات عوالمها الصوتية الجديدة! هي لذلك تعرض اللحن بتقنية غربية مشرقناً بروح لا تساوم على سؤال الإبداع بعد تفكيكه أولاً بتقطيعه على نبض لا يغوي اللغة الجديدة لعرض الميلودي لحنياً بجملة معاصرة متمردة أولاً، ثم بروح تشاركية مركبة في تفاعلها مع الآلات الأخرى بروح جريئة لا تخشى التنافر لا هارمونياً في الطنين ولا بوليفونياً في نسيج عصري بسيط يبتعد عن التعقيد والتركيبات التي تشطح إلى تعدد فذلكات مدارس الاتونال. بذلك لا تقطع ليال أبداً مع الماضي! أعتقد أنه بعد سماع عمل ليال الجديد «تفاعيل»، سنفهم جرأة روحها هذه أكثر لأنها تحاول العثور على صدى لرحلة روحها الممتدة موسيقياً من جذور الماضي الجميل للموسيقى العربية لتأخذها إلى عالم حر لا يخاف البحث في الأسئلة بمشروعية احتمالات الأجوبة المتعددة التي ستبقى تبحث عن نفسها في شكل ومضمون جديدين يتفاعلان فنياً، ليجدا استقرارها الداخلي متآلفاً، فتستريح ليال فيه وتتساكن بملامحهما بما يرضيها وهي تفتح أبواب الوعي الجديد وتدعونا إليه لنحتفل به معها.
قد لا تجد ليال جواباً أو أجوبة مقنعة لها بسرعة. لكنها حتماً تعيد ابتكار أسئلة لغتها الموسيقية السابقة بطريقة ولغة تزداد ثراء في غنى الصياغة الجديدة لـ «تفاعيل» الذي ينضم لبقية أعمالها التي كلما استدارت بأحدها لتقطف جواباً ما، تعود خلسة لتصدمنا وهي تتأمل عناصر عزفها على الروح الجديدة وهي ترقص فرحاً بأقصى ما فيها من رضى وعدم اكتفاء.