أكثر كتّاب السيناريو في لبنان لم يأتوا إلى هذا العالم من مكان بعيد: ممثلون قرأوا نصوص أعمال شاركوا فيها واكتشفوا أنَّ بإمكانهم كتابة ما يماثلها أو حتى يتفوّق عليها. من هؤلاء من انتظر تقاعده كممثل أو تقاعَدَ مبكراً كي ينصرف إلى مهمَّته الجديدة (منى طايع وكلوديا مرشليان على سبيل المثال)، ومنهم من فضَّلَ الاستمرار في أداء الدورين، شرط توفر قاعدة «فصل السلطات» التي تضمن «الشفافية» و«الكفاءة». فإما أن يكون اسمه في الشارة ممثلاً، وإما أن يكون كاتباً (طارق سويد وآية طيبا على سبيل المثال). خلافاً للتجارب المشار إليها، وفي زمن البطولات الجماعيَّة، وحدها كارين رزق الله تصرّ على «تدليل» نفسها بمسلسل سنويّ تكتبه وتؤدي فيه دور البطولة المطلقة، وتكون هي «سندريلا» الجميلة المحبوبة العاشقة المرهفة الكاملة الأوصاف! هل يمكن للكاتب المنشغل بنجوميّته كممثل إلى هذا الحدّ، الاشتغال على حكاية مشوّقة وحبكات حقيقيَّة تقنع المشاهد؟ أم أنَّ أقصى طموحه سينحصر في فيديو كليب من 30 حلقة؟قد بات معلوماً أنَّ الإكثار من المشاهد الحميمة، والمبالغة في التركيز على الملابس في دراما رزق الله لم تكن يوماً في خدمة النصّ بقدر ما هي بخدمة «الرايتينغ». «ومشيت» (20:30 على قناة mtv، كتابة كارين رزق الله وإخراج شارل شلالا) هي دراما عائليَّة رغم كلّ شيء، بعدما دخلت ناديا شربل (ابنة كارين) على الخط لتشارك والدتها البطولة، علماً بأنها كانت قد خاضت هذه التجربة طفلةً من دون أن تفصح عن موهبة تمثيليَّة خارقة.
مناكفات بين الحبيبين لا تبتغي سوى إطالة أمد السؤال الدرامي


مع انتهاء الحلقة السادسة من المسلسل، يمكن للمشاهد أن يزعم إلمامه بالحكاية كاملة. قبل 16 عاماً، غادرت ميدا (كارين رزق الله) إلى كندا، تاركة وراءها زوجها العقيد في مخابرات الجيش اللبناني أمل حجار (بديع أبو شقرا) وعائلتها، مدفوعة بصدمة فقدان ولدهما سمير ذي الأشهر المعدودة بفعل انفجار استهدف سيارة أمل ونجا منه الأخير، فيما قضى سائقه وطفله الوحيد. هناك تتخفّى بعد تبديل اسمها وتنجب ابنتها تالي (ناديا شربل) وتقضي 16 عاماً من عمرها قبل أن تقرّر فجأة العودة إلى أرض الأجداد. تكتشف بعد عودتها أنَّ زوجها ارتبط بصديقتها المقرَّبة دينا (بياريت قطريب) بعدما استصدر لها شهادة وفاة، وتشعر بأنها تعرضت للخيانة من أحبّ الناس إلى قلبها، فتحقد عليهما وتتراجع عن قرارها إخباره بأمر ابنتهما. يمكن ببساطة التكهّن بما سيحدث في 26 حلقة باقية من عمر المسلسل: مناكفات بين الحبيبين لا تبتغي سوى إطالة أمد السؤال الدراميّ «هل سيجتمع أمل وميدا مجدداً، ويلين قلبها وتصدّق أنَّه لما يزل يحبّها وتخبره أنَّ له ابنة عمرها 16 عاماً؟». كذلك هناك صراع بين ميدا ووالدها النائب والسياسي المعروف (أسعد رشدان) الذي لم يكن راضياً عن هذه الزيجة من الأساس. وهناك صراع آخر بين أمل ووالدته (نوال كامل) التي لم تنس إقدام زوجة ابنها على تركه بهذه الطريقة، لتكون الإجابة عن السؤال الدراميّ بعد 16 عاماً و30 حلقة من العذاب، نهاية سعيدة يجتمع فيها الحبيبان ويعيشان «في ثبات ونبات» (حتى وإن كانت صادمة ومخالفة للتوقعات، فإنها لا تبرّر كلّ هذا المطّ والإطالة). إذا كانت الحكاية الرئيسيَّة قد «احترقت» باكراً، فماذا عن الحبكات الفرعيَّة والخطوط الرديفة؟ لا شيء من هذا في «ومشيت»، بل شخصيَّات تائهة لا تعدو كونها «ديكوراً» لحكاية أمل وميدا، مهما بلغ إبداع الممثل الذي يؤدّيها، كما في حالة الفنانة رندا كعدي التي تؤدّي دور «أم الشهيد» بإحساس عالٍ وبراعة لافتة.
ويمكن هنا، مع القليل من سوء الظنّ، اعتبار الجيش اللبنانيّ وشهدائه «مقحَمين» في الحكاية، كوسيلة لكسب تعاطف الناس مع العمل وتماهيهم مع أبطاله لا أكثر، وخاصة أنَّنا لم نشاهد حتى الحلقة السَّادسة شيئاً له علاقة بطبيعة عمل العقيد أمل وأعدائه المفترضين، وأنَّه كان يمكن أن يكون محامياً أو قاضياً أو صحافيَّاً (مهن تبرّر وجود عداوات وتعرّض أصحابها لأعمال انتقاميَّة أيضاً)، من دون أن يتضرّر العمل أو ينقص منه شيء.
وإذا كانت قواعد كتابة السيناريو تجيز للكاتب إمرار المعلومة على شكل حوار، فإنَّ هذا الحوار ينبغي أن يكون منطقيَّاً وفي سياق طبيعي، لا أن توقف البطلة كلّ من تصادفه من معارفها لتروي من خلاله، للمشاهد، ما حصل منذ 16 سنة، وكيف كانت طبيعة علاقتها به قبل 16 سنة، ومكانه في هذا البناء الدراميّ قبل 16 سنة (قد يكون مزعجاً تكرار العبارة 3 مرَّات في سطر واحد، لكنَّها في المسلسل ترد على ألسنة الشخصيَّات بمعدَّل مرَّة كلّ دقيقتين تقريباً).
ثمَّة فارق كبير بين كسر حدَّة الحدث الدراميّ (وهو ما تفعله مي سحاب بنجاح بِدور راشيل المرحة والسَّاذجة قليلاً)، وبين الانتقال من التراجيديا إلى التهريج بقفزة واحدة. هكذا، وبعد أن تستدرّ الكاتبة دموع المشاهدين قدر استطاعتها في الحلقة الثالثة، تلقي إليهم بنكتة هزيلة، حين يدخل الناطور ليقول لميدا «صِدرِك برا». تنقل بصرها باستغراب بين صدرها وبين محدّثها أكثر من مرَّة، قبل أن تكتشف أنَّ «سيدريك» الذي قام بتركيب كاميرات المراقبة في الفيلا ينتظرها في الخارج.
وفي مشهد آخر من الحلقة نفسها، نكتشف أنَّ العقيد أمل بطل في الحساب الذهنيّ أيضاً. بمجرّد لقائه بميدا، يخبرها أنَّه انتظرها لمدة 16 عاماً قبل أن يحسب لها هذه المدَّة بالأيَّام (كان يمكن القول إنَّه يحفظ الرقم لولا أنَّه رقم متغيّر، وأنَّه لم يكن يتوقع رؤيتها في هذا اليوم بالتحديد).
وفي انتظار الإعلان الرسميّ عن حلّ العقد المحلولة سلفاً، واكتشاف أمل أنَّ له ابنة في مقتبل العمر، وتيقّنه وميدا أن لا غنى لأحدهما عن الآخر وأنَّ حبّهما لا يزال متّقداً، يبقى سؤال أكثر وجاهة: هل سنشاهد فادي شربل في مسلسل رمضاني من كتابة زوجته العام المقبل؟



* «ومشيت» يومياً 20:30 على قناة mtv