رغم أنّ الموساد الصهيوني قد تمكن من تفجير سيارته قبل 45 عاماً، فإن غسان كنفاني، ابن عكا البالغ 36 عاماً حين استشهد مع ابنة شقيقته لميس، يزداد حضوره يوماً بعد يوم، وتحمل شظايا جسده الغض كتاباته ورواياته وأفكاره إلى كل أنحاء العالم لتقدم لشعبه وأمته وأحرار العالم نموذجاً عن تلازم الإبداع مع الالتزام، عن تكامل ريشة الفنان مع قلم الكاتب، عن تفاعل الأمل مع الألم، وعن ترابط فلسطين بالعروبة، والنضال الوطني بالنضال الاجتماعي.
كثيرون عرفوا الشهيد غسان كنفاني من رواياته ومقالاته الرائعة منذ أوائل الستينيات قبل أن يتعرفوا إليه شخصياً. أما أنا فقد أتيح لي أن أتعرف إليه قبل روايته، بل أن أقرأه في شخصيته الفذة قبل أن أقرأها سطوراً وأحرفاً كتبها بيده، أو أراها لوحات رائعة رسمتها أنامله...
لقائي الأول به في «مجلة الحوادث» في خريف 1967، وكنت أتابع دراستي الجامعية، فاقترح الأستاذ الكبير الراحل منح الصلح وصديقه الأستاذ الياس الفرزلي على رئيس تحرير المجلة وصاحبها الراحل سليم اللوزي أن يضمني إلى اسرتها المكونة آنذاك من مدير التحرير الأستاذ الكبير طلال سلمان، والأديبة المتألقة غادة السمان، والصحافي البارز نشأت التغلبي، والإعلامي الذي بات شهيراً الراحل رياض شرارة (سكرتير التحرير)، ورسام الكاريكاتير الرائع نيازي جلول، والإعلامي الصاعد يومها الدكتور فاروق الجمال، وعامل المطبعة المناضل فواز بشارة (والد المقاومة سهى بشارة) والمصحح «اليساري الماوي» متري الهامس (أبو منير)... بالإضافة طبعاً إلى الشهيد غسان كنفاني الذي كان يعمل في أكثر من صحيفة يومها، ويرأس تحرير ملحق «الأنوار الأسبوعي» ويأتي كل ثلاثاء إلى مقر «الحوادث» في كورنيش المزرعة ليكتب على عجل مقالة تجمع بشكل مبتكر بين السياسة والأدب، بين عدالة القضية وأناقة التعبير.. وباسم مستعار هو «ربيع مطر»...
نجح غسان كنفاني بعد أسابيع من لقائنا في أن يزيل بسهولة حواجز الجليد التي كانت قائمة بيننا بسبب «الصراعات الحزبية السخيفة» يومها داخل التيار القومي العربي. اكتشفت بسهولة كيف أنّ الإبداع المقترن بالالتزام الوطني والدماثة الأخلاقية عابر لكل الحدود والحواجز والعصبيات والأفكار المغلقة....
لقائي الثاني بالشهيد غسان كان بعد خمس سنوات من خلال اجتماعات مجلس الإعلام الفلسطيني الموحد برئاسة الشهيد كمال ناصر وعضوية الراحل الغالي شفيق الحوت والشهيد غسان (من الجبهة الشعبية) والشهيد ماجد ابو شرار (عن حركة فتح)، والراحل محمد كتمتو – ابو فراس (عن الجبهة الديمقراطية)، والراحل فضل شرور (عن الجبهة الشعبية – القيادة العامة) وكاتب السطور حيث كنت العضو الوحيد غير الفلسطيني ممثلاً «جبهة التحرير العربية»...
في ذلك الاجتماع، الذي كان خطوة على طريق الوحدة الوطنية الفلسطينية، مؤسساً لمجلة مركزية «فلسطين الثورة» ووكالة أنباء مركزية «وفا»... تعرفت أيضاً على الروح الوحدوية لغسان كنفاني، وعلى روح المبادرة الرفيعة التي كان يتحلى بها، ورغم استشهاد غسان بعد أسابيع على تأسيس هذا المجلس، بقيت ذكراه حاضرة في كل ما اتخذناه من مبادرات...
روايات غسان وقصصه الكثيرة تحضر في ذهني فأرى في كل فلسطيني لاجئاً في مخيم «عائداً الى حيفا»، وفي كل بستان ليمون «أرض البرتقال الحزين»، وفي كل امرأة فلسطينية صابرة «أم سعد»، وفي كل جريح أو مريض في مستشفى «السرير رقم 12»، وفي كل عملية فدائية أو انتفاضة فلسطينية أسمع ضربات «رجال تحت الشمس» يطرقون جدران صندوق شاحنتهم قبل الاختناق مع الإدراك أنّ شعب فلسطين، حسب غسان، لن يختنق في خزان سجنه بل سيحطم جدرانه بانتفاضة تلو انتفاضة، وبثورة تتجدد على مدى العقود.