خليل صويلح
يختار الناقد السعودي محمد العباس عبارة «إحماء» بدلاً من المقدّمة أو التوطئة لكتابه «شعرية الحدث النثري» (دار الانتشار العربي ــــ بيروت). وبذلك يعلن معركةً مبكرةً ضد آباء الحداثة الشعرية العربية، معتبراً أنّ تلك الحداثة تعيش ارتباكاً معرفياً وجمالياً في مواجهة مقترح قصيدة النثر العربية الجديدة. هكذا اتّسعت المسافة بين متاهات الميتافيزيقي المجرد في قصيدة الآباء، وإرادة الأبناء، للحضور في القصيدة بملموسية الواقع. ويجد في قول أدونيس بخصوص النصوص الجديدة، أنّها إذ «تحتفي باليومي والعادي والراهن، تفتقر إلى عذاب الكتابة، وتالياً فهي لغة كسولة من دون لهب وعصب بمعنى أنّها قصيدة نيئة وعجولة». ويشير محمد العباس إلى أنّ أدونيس الذي طالما صرخ «لم يعد إلا الجنون»، لم يجرؤ على ارتكابه بقدر ما تمأسس وانزاح عن شعاراته باستمرار.
الأصوات الشعرية الجديدة كما يقول صاحب «حداثة مؤجلة» تحاول الفرار من مرجعيات «الآخر»، وتبتعد بقصدية عن إلحاحية التأصيل الصوفي العرفاني، والميتا ــــ لغوي، لتكون مرجع نفسها. التمرد على «الميتا ــــ لغوي» إذاً، هو ما يجعل النصوص الجديدة تنغمس في التجربة الحسية. وإذ يعترف العباس بأن النص الجديد لا يخلو من تقليد وسطحية وتصنّع وغموض مدبّر، فإنه في المقابل نص إيحائي ودلالي وليس نص أفكار. فهو لا يعتني بالمعاني، بقدر ما يقترب من الحياة باللغة.
في بحثه «طوطم الحداثة الشعرية في مواجهة الأصولية النقدية المحدّثة»، يؤكد محمد العباس قطيعة معلنة بين النص الجديد والنظرة النقدية الأصولية، من خلال تراكم تلك النصوص بوصفها وثيقة تعبيرية شعرية لهذا الانشقاق والاغتراب والاحتجاج على ما يتعرض له هذا «اللقيط الشعري» من اعتداء رمزي. ولعل هذا «الطيش البياني» الذي يواكب تجارب الأصوات الجديدة في حقبة التسعينيات، على نحو خاص، يحتاج إلى تمحيص نقدي جدي... ظل غائباً إلى اليوم، عدا بعض التوصيفات الفردية للشعراء أنفسهم. كأن تصير المبالغة اللغوية وإباحية التعبير، وإعلاء شأن الغرائز والرغبات، وتقديس مفهوم الفردية بمثابة تعويض وهمي عن فقدان الحريات العامة. وإذ تتحدى الكتابة الجديدة النقد الأصولي، إنما ترغب في استفزاز الذائقة الجمعية، وخلخلة الخطاب المستقر بتخليها عمداً عن «ضجيج الايديولوجيا وأكاذيب التاريخ ونعرات الجغرافيا وثارات المذاهب وأوهام الهوية».
يشبّه محمد العباس التنظيرات النقدية للحداثة الجديدة بأنها «صراع بين الفيلة يكون ضحيته العشب، أي الجيل الجديد من الشعراء العرب». ويوضح أن هذه التنظيرات لا تتم بنقدية معرفية، بل بسياحة منهجية لا تتناوش مع النص من داخله. وربما لهذا السبب، ارتدّ «شعراء اليتم» إلى ذواتهم، ومالوا إلى بناء صور شعرية متشظية وتهويمات لغوية مغلقة وعنيفة، موغلة في تدمير العلاقة مع المتلقّي. وما ذلك سوى ضرب من ضروب التمرد على الالتزام بالقضايا الكبرى، و«تبنوا إيديولوجيا اللامبالاة ولغة التشرد واللانتماء والانحياز المعلن للغياب واللامعنى».