strong>عثمان تزغارت
بطل أمين معلوف أفلت أخيراً من لعنة المكارثيّة

اسمه اقترن برواية أمين معلوف التي حققت الشهرة الشعبيّة لـ«ليون الافريقي». اليوم يطل علينا الرحّالة والعالم الغرناطي المولد، من خلال كتاب ضخم يحمل توقيع المؤرخة الأميركية ناتالي زيمون ديفس. ما قصّة هذا المشروع الذي تأجّل أربعين عاماً؟ ومَن هو حقاً حسن الوزّان؟

هو الحسن بن محمد الزياتي الفاسي الشهير بـ«حسن الوزان» أو «ليون الأفريقي». مع أمين معلوف صار رمزاً للحوار والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب... فالجمهور العريض تعرّف إلى شخصيته المثيرة والإشكالية من خلال رواية شهيرة للكاتب اللبناني المذكور، بعنوان «ليون الأفريقي» (منشورات «جان كلود لاتيس» ـــــ باريس، 1983). لكن قلّة من الباحثين والاختصاصيين استطاعوا أن يفرزوا بين ما هو متخيّل وروائي في عمل معلوف، وبين الحقائق التاريخية المتعلقة بالوجود الفعلي لهذه الشخصية ذات المسار الملتبس المشوب بالكثير من التقلبات ومناطق الظل.
إذا استثنينا رواية أمين معلوف، لم يتوافر حتى الآن سوى بحثين تاريخيين حاولا التوثيق لشخصية حسن الوزّان أو «ليون الأفريقي» ومؤلفاته. الأول كتبه المستشرق الفرنسي الشهير لويس ماسينيون عام 1906 بعنوان «المغرب الأقصى في السنوات الأولى من القرن السابع عشر: لوحة جغرافية حسب ليون الأفريقي». وقد ظل مفقوداً من المكتبات لأكثر من نصف قرن، قبل أن تُعاد طباعته عام 1996، بمبادرة من المكتبة الوطنية للمملكة المغربية. أما العمل الثاني، فهو عبارة عن رسالة دكتوراه للباحثة زيري أم البنين، بعنوان «أفريقيا في المرآة الأوروبية: من ليون الأفريقي إلى عصر النهضة» (منشورات «دروز» ـــــ جنيف،1991). مثلما هو واضح من عنوانيهما، لم يركّز العملان على التأريخ لشخصية ليون الأفريقي وتناولها بالبحث والتدقيق، بل اكتفيا بتقديمه والتعريف به باقتضاب، وذلك في معرض استشهادهما بأعماله ومؤلفاته بوصفه رحّالة وعالماً جغرافياً.
وها هي شخصية «ليون الأفريقي» تحظى أخيراً بالاهتمام الذي تستحقّه عبر بحث تاريخي ضخم وشيّق (480 صفحة) بعنوان «ليون الأفريقي: مسافر بين عالمين» (منشورات «بايو» ـــــ باريس)، يحمل توقيع المؤرخة الأميركية الشهيرة ناتالي زيمون ديفس (1928). أستاذة التاريخ الاجتماعي في جامعة «برينستون»، اكتشفت شخصية «ليون الأفريقي» باكراً وأولعت بها منذ عام 1952. فلماذا تأخّر عملها هذا لأكثر من نصف قرن؟ إنها قصة مثيرة وجديرة بأن تُروى.
المعروف أنّ ناتالي زيمون ديفس اشتهرت عالمياً بكتابها «عودة مارتن غير» (منشورات هارفرد برس ـــــ 1983)، الذي اقتُبس عنه فيلمان حقّقا نجاحاً سينمائياً بارزاً في العام ذاته: الأول فرنسي من إخراج دانيال فيني (سيناريو جان كلود كاريير، بطولة جيرار ديبارديو وناتالي باي)، والثاني أميركي من إخراج جون أمييل (بطولة ريتشارد غير وجودي فوستر). ومارتن غير هذا، مزارع فرنسي عاش في القرن السابع عشر، اضطرّ للفرار من مسقط رأسه في بلدة أرتيغا (جنوب غرب فرنسا) بعد اتهامه زوراً بالسرقة. هكذا لجأ إلى إسبانيا حيث تجنّد في جيش بيدرو دي ماندوزا، وفقد رجله اليمنى خلال إحدى المعارك في فلندرا. وبعد ثماني سنوات من الغياب، عاد إلى بلدته ليجد أن شخصاً يشبهه، انتحل هويته وعاش مع زوجته بيرتراند، مدّعياً أنّه هو وأنجب منها طفلتين. واستغرق الأمر ثلاث سنوات كاملة من المعارك القضائية، كي يثبت العائد أنّه مارتن غير الحقيقي ويعترف مارتن غير المزيف بالخديعة، ويكشف أنّ اسمه الحقيقي أرنو دو تيله!
وقد تتساءل، عزيزي القارئ، ما علاقة كل ذلك بـ«ليون الأفريقي»؟ الجواب أنّ غير مثل الأفريقي عاش في مطلع القرن السابع عشر. وهنا تنتهي المقارنة، ولا توجد أي صلات أخرى بينهما. كل ما هنالك أن ناتالي زيمون ديفس وقعت بالمصادفة ـــــ خلال الأبحاث التي كانت تجريها عام 1952 للتوثيق لقصة مارتن غير ـــــ على كتاب من الحقبة ذاتها يحمل عنوان «وصف تاريخي لأفريقيا بقلم جان ليون الأفريقي». وهو كتاب طبعه في مدينة ليون الفرنسية عام 1556، الناشر جان تومبورال الذي منحه الملك هنري الثاني امتياز ترجمة هذا العمل من مخطوطته الأصلية التي كتبها «الأفريقي» بالإيطالية.
كانت ناتالي زيمون ديفس تدقّق في الأعمال التي طبعها الناشر تومبورال لأن بعضها جاء على ذكر قصة مارتن غير. وإذا بها تقع في غرام شخصية أخرى لا تقل غرابة وتشويقاً، هي شخصية «ليون الأفريقي». قرّرت المؤرّخة الأميركية، وكانت يومذاك في الثلاثين، أن تخصّص للأفريقي بحثاً منفصلاً ما أن تنهي كتابها عن مارتن غير. لكنها لم تأخذ في الحسبان رياح «المكارثية» التي ستعصف بحياتها وحياة زوجها، عالم الرياضيات شاندلر ديفس. في ذلك المناخ المسموم الذي شهد اضطهاد عدد كبير من المثقفين والمبدعين، والتنكيل بهم بحجة محاربة الشيوعيّة، عرف زوجها السجن وطُرد من الجامعة عام 1960، بينما سَحب منها مكتب التحقيقات الفدرالي FBI جوازها، ومنعها من السفر خارج الولايات المتحدة لأكثر من عشر سنوات...
تلك الهزة القاسية جعلت صدور كتاب ناتالي زيمون ديفس الأول عن مارتن غير يتأخر حتى عام 1983. أما مشروع بحثها المتعلق بليون الأفريقي، فبقي مجرد «حلم شباب لم يتحقق».. وها هو حلم الشباب يتجسد أخيراً، إذ أبصر الكتاب النور هذه السنة، بعدما بلغت صاحبته التاسعة والسبعين، وأصبحت أشهر مؤرخة على قيد الحياة متخصّصة في أوروبا القرن السابع عشر.
بالطبع لا يمكن أن نتوقّع من كتاب كهذا أن يرفع اللبس تماماً عن شخصية ليون الأفريقي، ويزيل كل مناطق الظل في حياته. لكنّ ميزته أنه يفرز الغثّ من السمين، ويورد مختلف الروايات المتداولة، مصنّفاً إياها وفقاً لدرجات وثوق مصادرها، لينتهي إلى صيغة لا تدّعي المؤلّفة أنّها تمثّل «الحقيقة التاريخية المطلقة» بل «الوجه الأرجح» لتلك الحقيقة.
أدركت ناتالي زيمون ديفس أنّها إذا سعت إلى إسقاط كل المعلومات والأخبار غير المؤكدة، أو تلك التي تتضارب بشأنها المصادر التاريخية، فلن يبقى لها من ليون الأفريقي أي شيء يُذكر... فلا شيء مؤكداً عن حياته وسيرته، سوى ألقابه الثلاثة التي عُرف بها في مختلف مراحل حياته، وبقيت منها آثار مخطوطة، وهي «حسن الوزان» ثم «يوحنا الأسد» فـ «يوهانيس ليو». أما لقبه الأشهر «ليون الأفريقي»، فلم يظهر سوى لاحقاً، وهو من ابتكار ناشري أعماله بعد وفاته!