أمل الأندري
500 أغنية، 44 ألبوماً، 100 مليون أسطوانة، 500 كتاب (عنه)، وماذا بعد؟ هل تمّ تطويق الأسطورة، والإحاطة بكل وجوهها؟ في السادسة والستين، ما زال بوب ديلن يثير الحيرة بشكله الذي يعكس ملامح الزمن الغابر.
تأثّر بأبرز رموز الـ Beat Generation مثل ألِن غينسبرغ، وجاك كيرواك الذي قرأ روايته «على الطريق» في مراهقته. وشُبّه بآرتور رامبو، علماً بأن الشاعر الفرنسي هو عشقه الأكبر...
صَقَلَ بوب ديلن الذي جمعت أغنياته بين السريالية والموسيقى الشعبية الأميركية، مزاج جيل كامل، وكوّن مرآةً لحقبة الستينيات بتململها وتقلّباتها. هكذا، أطلقت أغنياته شرارة حركات الحقوق المدنية في أميركا التي كان صدرها يضيق يومها بكلّ سحنة سوداء. ناضل ضدّ التمييز العنصري واضطهاد الشيوعيين، ودافع عن الحريات الفردية من دون أن ننسى حرب فيتنام طبعاً. لكن ما كاد يُطلق شرارة الأغنية الاحتجاجية حتى مضى. تخلّى عنها بعدما صارت موضةً رائجةً، وانسحب لينظم قصائد الحب واللوعة والعشق والهجران.
هكذا، كان دوماً بوب ديلن! راديكالي في الأزمنة الصعبة، شغوف لا يستكين في الأمكنة الوسطى: من الفولك إلى الروك، ومن الأغنية الملتزمة إلى أخرى أكثر حميميّة، ومن الموقف اللاديني إلى إعادة اكتشاف المسيحية واليهودية... ولطالما كانت حياته عبارةً عن «وابل» عنيف من التحوّلات الصاخبة إلى درجة يصعب الإمساك به. ما أن تسجنه في خانة حتى ينسلّ من بين أصابعك كالماء. «لا أسمّي نفسي شاعراً، لأني ببساطة لا أحبّ هذا التصنيف. أنا فنّان»، هكذا يتكلّم عن نفسه. علماً بأنّه رفض كل أشكال التصنيفات والانتماءات السياسية والثقافية والاجتماعية.
ولعلّ هذا ما دفع المخرج الأميركي تود هاينز إلى الاستعانة بستّة ممثلين (بينهم امرأة هي كيت بلانشيت) للإحاطة بشخصية هذا الكائن «المُتعب» في فيلمه «أنا لستُ هناك». ستّة ممثلين اقتفوا أثر ديلن عبر أبرز المراحل المفصلية في حياته، ومن خلال مواقفه الأكثر راديكالية. ونال الفيلم جائزة لجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي هذا العام، فيما حازت كيت بلانشيت جائزة أفضل تمثيل، عن دورها فيه.
لم يطلق هاينز اسم «ديلن» على أيٍّ من شخصياته. ديلن الأول الذي افتَتح الفيلم يُدعى أرتور، في إحالة إلى رامبو صاحب عبارة «أنا هو شخص آخر» (Je est un autre). حتّى عنوان الفيلم نفسه، I’m not there، ألا يحيل إلى الشاعر الملعون؟ هكذا يستعيد المخرج محطّات فاصلة في حياة ديلن، من دون أن يجعلها تتلاحم كرونولوجياً، فنجد أنفسنا في خضم حيوات عدة تضجّ بالتقلّبات. شبح ديلن يخيّم على الشريط، لكنّنا لا نراه. إنّه الأسطورة التي يصعب التقاطها.
أما الفرنسي فرنسوا بون، فيرسم، في «سيرة بوب ديلن» (دار البان ميشال)، صورةً لرجل متشعّب، متردّد وقلق أحياناً، ومتناقض أحياناً كثيرة.
ويقف المؤلف عند أهم محطات مسيرة بوب ديلن: الولادة، الطفولة العادية وفرق الروك التي أسّسها، ثم اكتشافه وودي غاثري، والمغادرة إلى نيويورك. نتابع صعوده إلى القمة، ثم انسحابه فترة بعد حادثة الدراجة. ونكتشف هفواته وانزلاقاته وتقلّباته. وبين هذا وذاك، يحوم بوب ديلن بصورته القديمة العالقة في مخيلتنا، كما خليله رامبو بالأبيض والأسود، وخلفه على الجدار، كتبت هذه الجملة:
الـ«يوتوبيا» مرّت من هنا!