بشير صفير
تربّع على عرش الموسيقى الكلاسيكيّة، مانحاً فنّ القيادة حروفه الذهبيّة، وحاملاً أوركسترا برلين الفيلهارمونية إلى مدار الشهرة الكونيّة. إنّها مئوية المايسترو الراحل، مواطن موزار الذي تغلّب بصعوبة على ماضيه النازي

مع بداية كل عام، تتجّه الأنظار إلى شخصية بارزة في عالم الموسيقى الكلاسيكية لتكون محور النشاط الفني والإعلامي على مدار السنة. وغالباً ما يرتبط الحدث بسنة ولادة مؤلّف كبير أو وفاته (من حقبة الباروك حتى بداية القرن العشرين) أو موسيقي لامع في عالم الأداء. هكذا كان 1999 عام شوبان في ذكرى 150 سنة على رحيله. وفي عام 2000، أتمّ باخ 250 سنة على رحيله، فيما كانت حصّة موزار في عام 2006 بعد 250 سنة على ولادته. أما 2007 فكان عام المؤدّين، وقد تقاسمه عازف البيانو الكندي غلن غولد في الذكرى ٢٥ لرحيله، مع السوبرانو اليونانية ماريا كالاس في الذكرى 30 لرحيلها أيضاً.
ماذا عن 2008؟ إنّها سنة قائد الأوركسترا النمساوي هيربرت فون كارايان (1908 ـــــ 1989) الذي يحتفل العالم بالذكرى المئوية لولادته. في هذه المناسبة، ستعيد شركات الإنتاج إصدار تسجيلات سابقة لكارايان، أو ربّما تفاجئ الجمهور بتسجيل غير منشور.
ككل شخصيّة تركت بصماتها القويّة على المسار التاريخي في الفنّ أو سواه، فإن كارايان لا يحقق الإجماع في الوسط الموسيقي الكلاسيكي. بل إن هناك من لا يعدّه قائداً عظيماً من الأساس! لكن، مهما يكن من أمر، فإنّ المايسترو هيربرت فون كارايان يبقى، باعتراف عشّاقه وكارهيه، رمزاً لهذه المهنة في القرن العشرين من دون منازع.
بعضهم يتّهمه بأنّه متعجرف وسلطوي سعى إلى تسويق صورته وتلميعها وبلوغ الشهرة. وحتى يومنا هذا، ما زالت تلاحقه تهمة مناصرة هتلر وانضمامه إلى الحزب النازي أواسط الثلاثينيات (تحديداً في عام 1933، كما جاء في فيلم «التاسعة» ـــــ من وحي السمفونية التاسعة لبيتهوفن ـــــ للمخرج الفرنسي بيار هنري سالفاتي).
وعلى رغم أنّ الحلفاء أسقطوا عنه رسمياً صفة النازي في عام 1947، ظلّ كارايان يعاني كثيراً من دمغة العار تلك. هو الذي بقي خادماً للموسيقى في الدرجة الأولى، بينما جاء انتماؤه النازي في تلك الفترة ـــــ بحسب المدافعين عنه ــــ بهدف الحصول على دعم الحزب لمشروعه الفني، أكثر منه قناعةً بالمبادئ الهتلرية. وقد سعى كارايان طوال حياته إلى الكمال، فحقّق جزءاً كبيراً من هذا الحلم مع الفرقة الفيلهارمونية لمدينة برلين، التي جعلها أهم أوركسترا في العالم، بعدما عُيِّن قائداً لها مدى الحياة عام 1955، خلفاً لقائدها الأسطوري (المتّهم بالنازية هو الآخر!) فيلهلم فورتفانغلر.
ولد كارايان في مدينة موزار، سالزبورغ في النمسا. درس البيانو وقيادة الأوركسترا. وفي عام 1928، وقف مع عصا المايسترو لأول مرة أمام الجمهور، ومنذ ذلك الحين تولّى قيادة أو إدارة العديد من الفرق الأوركستراليّة عبر العالم... في عام 1938، وقّع عقده الأول مع «دويتشيه غراموفون» أهم شركة إنتاج موسيقى كلاسيكية في العالم، فأصدر أول تسجيل له: افتتاحية أوبرا «الفلوت السحري» لموزار. كما وقّع لاحقاً عقوداً مع شركات أخرى، وأعاد توقيع عقود عدّة مع «دويتشيه غراموفون»، مسجّلاً في المحصلة الأخيرة حوالى ألف عمل، أي ما يعادل 400 أسطوانة، ليصبح بذلك أكثر الموسيقيين غزارة، لجهة التسجيل، في القرن العشرين.
كان كارايان مولعاً بالتكنولوجيا، وخصوصاً تلك التي تتعلّق بالصوت والتسجيل والإضاءة (أخرج بنفسه العديد من التسجيلات المصوّرة له). وحقق أول تسجيل رقمي في عام 1980 (أوبرا «الفلوت السحري» كاملة)، كما أصدر أوّل أسطوانة مدمجة عام 1982 («سمفونية الآلب» لريشارد شتراوس)، ليكون من الرواد في مجال تكنولوجيا التسجيل.
موسيقياً، قدَّس كارايان الكمال لناحية الإيقاع خصوصاً، وكان يلتقط أدق تسريع أو تبطيء له، وإن قام به عازف واحد في أوركسترا تضمّ 120 موسيقياً. في مثل تلك الحالة، يروى أن كارايان كان يقاطع العزف بحدة، فارضاً احترامه عبر قساوة ملاحظاته التي لم تخرج أبداً عن حدود الآداب إلى إهانة الموسيقيين، على غرار ما كان يفعله الكثير من زملائه.
في ريبرتواره الضخم، لم يهمّش المايسترو أيّاً من الحقبات الموسيقية، أو الأنماط الموسيقية الكلاسيكية. سجّل من باخ إلى مؤلّفي القرن العشرين، أمثال بنيامين بريتن وبول هيندميت، وبيلا بارتوك وثلاثي مدرسة فيينا الثانية (برغ، شونبرغ، فيبرن)، مروراً (حسب الترتيب الزمني) بهايدن وموزار وبيتهوفن وشوبرت وشومان وفاغنر وبرامز وتشايكوفسكي وماهلر وغيرهم.
في قلب هذا العالم الشاسع، أولى كارايان اهتماماً خاصاً ببيتهوفن، فسجّل سمفونياته كاملةً أربع مرات: الأولى تعود إلى بداية الخمسينيات مع الفيلهارمونيا أوركسترا والثلاث مرّات الأخرى تعود إلى العقود اللاحقة (الستينيات والسبعينيات والثمانينيات) مع برلين الفيلهارمونية. كما اشتهر بتسجيلات تاريخية لسمفونيات بروكنر وبرامز وأعمال فاغنر الأوبرالية.
وفي عام 1972، اختير كارايان لتوليف الجزء الأول من الحركة الرابعة للسمفونية التاسعة لبيتهوفن، ليكون النشيد الرسمي للاتحاد الأوروبي. فقام بثلاثة توليفات، الأول للبيانو والثاني لآلات النفخ والثالث للأوركسترا.
على رغم انشغاله الكبير، ونشاطه المنقطع النظير، كان كارايان يجد متسعاً من الوقت لممارسة هوايته الأثيرة: قيادة الطائرات. كان المايسترو الطيّار، يحلّق بطائرته الخاصة حوالى 250 ساعة في السنة. فيما ظلّ حتّى سن متقدمة، يعشق السرعة والسيارات الرياضية والدرّاجات النارية. وكان كارايان يغمض عينيه عند قيادة الأوركسترا من دون الحاجة إلى متابعة المدوّنة الموسيقية، إلا في حال وجود الغناء، (أي الأعمال الأوبراليّة أو الدينيّة الغنائية). ثمّ أغمضهما للمرّة الأخيرة في عام 1989 إثر نوبة قلبية، تاركاً موقعه فارغاً إلى الأبد.



كارايان وبعلبك

اشتهرت «مهرجانات بعلبك الدولية» ببرامجها الاستثنائيّة التي استضافت أشهر الأسماء الفنية، منذ تأسيسها أواسط الخمسينيات، وخصوصاً خلال سنوات ما قبل الحرب الأهلية.
وفي مجال قيادة الأوركسترا، نعثر على أسماء دخلت التاريخ، كشارل مونش (1957)، وكارل مونشينغر (1970). أما من بين العازفين الذين زاروا لبنان وقدّموا أعمالاً في بعلبك، فنذكر عازف الفلوت الأشهر عالميّاً، الفرنسي بيار رامبال (1962، 1969، 1973) وعازف التشيلو الروسي مستيسلاف روستروبوفيتش (1969) وعازف البيانو السوفياتي سفياتوسلاف ريختر (1969) وغيرهم.
أما الموسم الذي شكّل الحدث الفني الأبرز في تاريخ لبنان الثقافي، في ما يخص الموسيقى الكلاسيكية طبعاً، فكان عام 1968. ذلك الصيف أتى كارايان ليقود الأوركسترا الفيلهارمونية لمدينة برلين أمام الأعمدة الرومانيّة الشهيرة. وتكمن عظمة هذا الحدث في عنصرين متساويين في الأهمية: الأول هو أنّه عندما جاء كارايان عام 1968 إلى لبنان، كان قد بلغ قمة شهرته ونشاطه آنذاك، ولم يعد مجرّد قائد أوركسترا موهوب لم ينل بعد الاعتراف الواسع به. وما زاد من أهمية الحدث، مجيئه على رأس الأوركسترا التي كانت آنذاك (أيضاً) الأهم في العالم.
قدَّم كارايان خلال زيارته حفلتين شملتا السمفونية الرقم 29 لموزار، والسمفونيتين الخامسة والسادسة لبيتهوفن (إضافة إلى افتتاحية «كوريولان»)، والسمفونية الثانية لبرامز، وقصيدة سيمفونية لريشارد شتراوس بعنوان «تيل الماكر» Till l’espiègle