ياسين عدنان
خارج الاختيارات الإعلامية العربية الكبرى التي تتعامل مع التلفزيون كمجال للترفيه أو كأداة للدعاية السياسية، هناك انفلاتات عربية نادرة لتلفزيونات صغيرة حاولت ربط العمل في المجال السمعي البصري برهانات التنمية المحلية. من هنا، تطلّ قناة «العيون» الجَهَوية، أول قناة محلية في بلدان المغرب العربي وشمال أفريقيا، في طليعة هذه الاستثناءات. يكفي مثلاً أنها تضع إمكاناتها المحدودة (أقل من مليوني دولار) لمواكبة كل المشاريع التنموية التي تعرفها المنطقة. وآخرها برنامج تأهيل الواحات الذي تشرف عليه وكالة إنعاش أقاليم الجنوب.
هذه القناة التي انطلقت في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 في إقليم العيون المغربي، أسهمت أولاً في مسلسل التنمية البشرية المحلية عبر تشغيل نخبة من شباب المنطقة.ذاك أنّ طاقم الصحافيين والتقنيين الذين أسهموا في تأسيسها جرى انتقاؤهم محلياً عن طريق الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيلقبل أن تعمد أطرٌ من الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون إلى تأهيلهم، ليواصلوا تكوينهم الميداني في مقر القناة (الأولى) في الرباط، قبل أن يستفيدوا من تدريبات مكثفة أشرف عليها أساتذة من المعهد الفرنسي للسمعي البصري. والحصيلة: وفّرت القناة أكثر من 60 وظيفة لأبناء المنطقة، إلى جانب عشرات المناصب التي خلقتها شركات الإنتاج المحلية، وخصوصاً أن القناة تنتج جميع برامجها محلياً.
وعلى رغم أن إنشاء المحطة جاء في سياق تحرير المشهد السمعي البصري في المغرب، وتعزيزه بقنوات جديدة مثل «المغربية»، و«الرابعة»، و«قناة محمد السادس للقرآن الكريم»، تميّزت «العيون» عن باقي القنوات بالجرأة اللافتة التي تقارب بها ملف الصحراء. وفيما تكتفي القنوات الأخرى باجترار لغة الخشب نفسها التي يستعملها السياسيون، فضلت «العيون» في برامجها السياسية الحوارية ونشراتها الإخبارية، اقتراح مقاربة جديدة لهذا الملف. وهكذا، هي لا تكتفي مثلاً بمتابعة الوضع الإنساني المتدهور لمخيمات «تندوف»، ولا بمواكبة الانتفاضات الساكنة في هذه المخيمات ضد الانتهاكات التي يتعرضون لها من طرف قادة البوليساريو، من خلال شهادات صوتية طرية مستقاة من عين المكان. إنما حرصت أيضاً على تغطية التحركات الاحتجاجية التي يقوم بها من حين لآخر شباب مغاربة من ذوي الميول الانفصالية داخل العيون نفسها. بل لم تتردد مرةً في فضح السلطات المغربية حينما مارست العنف ضدهم. ما أعطى القناة صدقية كبيرة داخل مجالها الحيوي، وجعلها تسهم عملياً في نشر قيم الديموقراطية وثقافة الحوار في المنطقة. والنتيجة هي نسبة المتابعة العالية التي صارت تتمتع بها في كل من الأقاليم الجنوبية للمملكة وموريتانيا ومخيمات البوليساريو. بل هناك من يجزم اليوم بأن الحيوية التي جاءت بها هذه القناة كان لها دور كبير في إقناع العديد من صحراويي المخيمات بالعودة إلى وطنهم الأم، وفي التعجيل بالتحوّل الديموقراطي الذي شهدته موريتانيا.
لكن «العيون» التي بدأت بثلاث ساعات من البث يومياً، لم تراهن على السياسة فقط لربح رهان المشاهدة، بل استثمرت الكثير من إمكاناتها لتوثيق المخزون الثقافي المحلي ونفض الغبار عن تراث الصحراء الشفوي، وخصوصاً الشعر الحساني وفن «الهول» وموسيقى «أزَوَان» وباقي فنون مجتمع «البيضان» العربي الصحراوي. وهو المجتمع الناطق باللهجة الحسانية والموزع بين أقاليم الصحراء المغربية وموريتانيا. وذلك من خلال العديد من البرامج مثل «كنز البيضان»، «ليالي السمر»، و«سباق القوافي». إضافةً إلى تكريسها خيار إعلام القرب من خلال عدد من البرامج الاجتماعية القوية أهمها برنامج «جسر الإحسان» الذي يحظى بشعبية استثنائية في الصحراء. فمع كل رمضان، ينجح شرف الدين زين العابدين، مُعدّ البرنامج ومقدمه، في حشد الدعم المالي لمعالجة العديد من الحالات الاجتماعية والصحية الحرجة ما يسهم في إعادة إدماج أصحابها في المجتمع. مجتمعٌ صحراوي له تقاليد عريقة في التكافل عرف هذا البرنامج كيف يستثمرها إلى أقصى حدّ، ليؤدي دوره الاجتماعي أولاً ثم ليصنع فرجته التلفزيونية. ما كرَّسه نموذجاً حياً للدور الإيجابي الذي يمكن أن يؤدّيه تلفزيون القرب في البلدان النامية.