جوزيف عيساوي *غريغوار حداد... مطران الفقراء والعروبة والتحرير | قالوا لي بالأمس إنك دخلت غيبوبتك القسرية، فاستفقتَ فيَّ أكثر من ذي قبل. أنت من دعوتَ الى التخلي عن الطقوس والعبادات والانصراف الى عمل الخير. بعتَ الصولجان ووهبت الخاتم للمعوزين وتخليت عن أمجاد السلطة طارداً الساسة المتزحفطين على باب مطرانيتك للروم الكاثوليك في بيروت. من اين جئت بنيرانك لتثوير الصنمية الدينية في الشرق ووصْل كنائسه بمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني التي داسوا وأهملوا؟ أيها المولود قرب قريتنا، في سوق الغرب، لوالدٍ انجيلي وأمّ كاثوليكية. فهل انت مسيحيّ أم مسلم أم على كلتا الديانتين أم مجرّد مؤمن تنبع علمانيته من حداثة غربية وإيمان تغذّى بمتصوفةِ المسيحيين والمسلمين والبوذيين؟ في مجلتك «آفاق» (1974-1975) ألححتَ على النقد الجذريّ للدين، وانه ليس ضد الانجيل، بل ضروري للانسان لأنّ المطلق الأول هو الله والثاني هو الانسان. وأما التعبير عن الله، سواء انجيلاً أو قرآناً، فيجب وبإلحاح إعادة فهمه وتأويله. بل ذهبت ابعد حين سألتَ: هل الكنيسة أسسها المسيح حقاً؟ وهل افعالها تعبير عن مشيئته؟ وفي مقالة من مقالاتك التي أحالوك بسببها الى التحقيق في روما، دعوت الى تحرير المسيح من المسيحيين والكنيسة والمسيحية كعقيدة وكل ما كتبه اللاهوتيون عن يسوع أو ما يعتبرونه قيماً خاصة بالمسيحية وحدها.
برّأك الكرسيّ الرسوليّ من الهرطقة المزعومة في الوشاية التي أرسلها راهب يسوعيّ، لكنّ البطريرك حكيم والاكليروس، وحتى من خارج كنيستك، أصروا على ادانتك وإخراجك، فجُعلت مطراناً على مطرانية لم تعد موجودة في أضنة. وعندما عدت عام 2002 بعد احتجابٍ للحديث في اللاهوت، تنطّح أحدٌ من جمعية «اخوة الصليب» لصفعك أمام مبنى «تيلي- لوميار». وعلى اثره، طلب منك البطريرك لحام في بيانٍ صحافي أن تتوقف عن الكلام «صوناً للايمان المقدس»، فلم تأبه. رغم الحرب وعَقْدٍ من السلام، ما زال المسيحيون إذن غارقين في تحجرهم العقيديّ، واليوم ربما ازدادوا بسبب فظاعات الاصوليات الاسلامية من مختلف المذاهب.
التقيتك مراراً وقبل عامين، أقنعتك بصعوبةٍ بتصويرك لوثائقيّ حول حياتك. وحاججتك اكثر من ذي قبل. فهل كان النظام اللبناني والمسيحيون عشية الحرب الاهلية مهيئين لطروحاتك في التغيير الجذري؟ هل كان تضامنك مع فلسطينيّ أصيب برصاص الجيش اللبناني ليُفهم في سياقه المسيحي-الانساني أو السياسي- اليساري؟ كنتَ غريباً في طائفتك وسائر الطوائف المسيحية، اذ نقدتها من الداخل مطبّقاً الاصلاح على نفسك أولاً. وكتبت في «النهار» مقالاً ينتقد «الأصولية المسيحية التي تسعى (خلال الحرب) الى وطن قوميّ للمسيحيين». وكنتَ قد غادرت الشرقية الى عين الرمانة قرب عاليه.
ألححتَ على النقد الجذريّ للدين لأنّ المطلق الأول هو الله والثاني هو الانسان

براءتك ونقاء ثورتك لم يعفكَ أو يعفها من وطأة الاحتراب الداخلي والعربي والاجنبي في لبنان. انت من لم يكتفِ مع معلّمك، كما تصفه، الاب بولس الخوري والاب ميشال سبع وجيروم شاهين بتحريك الراكد لاهوتياً، وتأسيس العمل الاجتماعي متأثراً بالاب بيار الذي التقيته يوماً، واطلاق التيار المدني العلماني. فانبريت في عزّ الحرب الباردة بين الجبّارين وخلال مؤتمر للحوار في ليبيا بحضور ممثل عن الفاتيكان عام 1976 الى دعوة المسيحيين للاعتراف بمحمد بن عبد الله نبيّاً من الله، مشترطاً تخلي المسلمين عن القول بشرك المسيحيين أو النصارى، من أجل قيام حوار لاهوتي (عدتَ لتصفه لاحقاً بالفولكلوريّ داعياً الى حوار الحياة بين اتباعهما). ردّ عليك بقسوة فؤاد افرام البستاني في «الحوادث» ناعتاً اياك بـ»الحذاء المهترئ». وقال لاهوتيون إنك تطرح الحوار بين الدينَين على أساس ستر الخلافات بينهما والغاء اليهودية لتجعل من الانجيل مجرد تمهيد للقرآن، اذ ماذا يبقى من المسيحية لو قالت بنبيّ الاسلام، وكلُّ واحد من اديان التوحيد يتأسس على ما سبقه ليعود وينفيَه محتكراً الحقيقة لنفسه، مطلقاً عليها صفة الكمال.
ساجلتك في مقابلات تلفزيونية عدة وأمام الكاميرا السينمائية، فكنت تحردُ أحياناً ولكنك بقيت صلباً في التعبير عن فكرتك وطيباً ومتهكماً. وقلت إنك غير نادم على ما فعلت حتى عندما حُسبتَ على طرف في الحرب. وانه كان لا بد من الهزة داخل الطائفة وانك ضد العنف المسلح وضد القتل «حتى ولو طاول جندياً اسرائيلياً»، اذ تريد استرجاع الحق الفلسطينيّ بالسلم، والتفاوض، وعبر تشكيل رأي عام غربي ضاغط يحقق توازناً أو يغلب اللوبي الصهيوني هناك. وكم استغربتُ قولك لي إنّ على المسيحيين عدم الخوف من العيش في دولة إسلامية، انت من كانت وبقيتْ «العلمانية الشاملة والمحايدة ايجاباً تجاه الاديان» هاجسك وديدنك. بل انت من ايّد عدم ذكر المسيحية في مقدمة الدستور الأوروبي باعتبارها احد منطلقاته «لكي يدرك المسيحي الاوروبي أنّ مسؤولياته تدفعه للعيش مع المختلفين اياً كان دينهم وحتى إذا هم ملحدون او لاأدريون». فكيف ترى في المقابل أنّ «المسيحي المتنور لا يخشى العيش في دولة اسلامية، على اساس الآية ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وانه ليس من الضروري أن يشارك في النظام السياسي ليعيش مسيحيته بشكل جيد»، معطياً الجمهورية الاسلامية الايرانية مثلاً، ومضيفاً «أنّ كل دولة اسلامية تسيطر على الانسان هي ضد الاسلام لان في القرآن تعددية وعلى المسلمين قراءتها». وقلتَ أيضاً انك لا تخشى قيام جمهورية اسلامية في لبنان أو تغيير هويته وسيطرة أكثرية على أقلية لأنّ السنّة والشيعة لن يتفقا على طبيعة هذه الجمهورية». وهذا صحيح أيها المطران الحبيب، ولكن الا نرى كيف أنّ هذا اللااتفاق لم يصنع بدوره دولة بل أدى الى المزيد من التفتيت والانحلال.
لم يكن كل ما فعلتَه أو كتبته أو آمنتَ به مثالياً، ولو أنّ الثوار يشعرون دائماً انهم اقرب الى الطوبى، وهو سبب إضافيّ لمضيّهم كما لإبهارنا وجعلنا نصدّق. لم تتزحزح كنيستك قيد أنملة عن تقاليدها وتطنيشها على ما حولها من فقر وظلم، ولم يقترب نظامنا السياسي من حلمك بعلمنة شاملة قد تعدي المسلمين، فيتجاوزون المأزق الحضاري المريع. بل انك انت نفسك صرت تقول ويا للعجب بقدرة المسيحيين على العيش في دولة دينية اسلامية (ولمَ لا مسيحية؟). تفارقنا أيها الصديق وأنا لم انته من مساجلتك ومحاورتك ونقدك في الفيلم وخارجه. وإذ نذهب الأحد لتوديعك ومرافقتك الى مثواك بين مطارنة وبطاركة سبقوك، فسأحمل معي قطعة من حلوى المرصبان التي تحب والتي كنتُ ممن يحملونها اليك بدل الشوكولا. لن ارميَ الحلوى على ترابك مع الزهور أو اتناولها. بل سوف أتركها تحزّ على القلب.
* شاعر وإعلامي لبناني

https://www.facebook.com/75aujourlejour/videos/1635805770025588/