الشيخ شفيق جرادي*غريغوار حداد... مطران الفقراء والعروبة والتحرير | الموت هو حق على العباد لطالما كان يفرض نفسه علينا إما متصالحاً أو متخاصماً، أو سلماً لإرادة منا تبتغيه، واليوم نحن مع انتقال للمطران غريغوار حداد إلى جوار ربه، انتقال تصالح فيه غبطته مع عالم ضج بحركة وأفكار كبار كمطران الفقراء ونصير المسالمة والمصالحة بين بني البشر واتجه نحو عالم آخر فيه المكر لله سبحانه وحده، والسؤال هناك عن العمر كيف انقضى؟!
لست ممن يعرف مسارات عمر مطران الفقراء، لكنني واحد ممن عاش البيئة التي أسسها وغيره كثير، والتي قامت على توفير الأرضية الصالحة لعلاقة الدين بالدنيا، والله بالإنسان، واللاهوت بالعلمنة.
فالناس في مثل هذه البيئة اتجاهات وسبل شتى، منهم من تمسّك بالدين وأدار ظهره للدنيا، ومنهم من استفرغ الوسع في الدنيا بعيداً عن الآخرة، ومنهم من عمل لعلمنة الدين أو ديننة العلمنة وهكذا...
وفي ظني أن سيادة المغفور له كان من القسم الأخير، الذي أراد أن يعطي العلمنة طابعاً من روح القيم الدينية، ولو بالنحو الذي فهم مطران الفقراء جوهر الدين وحقيقته. لطالما قرأت حول رأيه في جوهر الرحمة والمحبة في الأديان، وأن هذا أمر يختلف عن كل ما آلت إليه الأديان في جماعاتها ومؤسساتها وقادتها.
كل طائفة أو مذهب أو إيديولوجيا خارج احترام الإنسان هي موت وجريمة

الأمر الذي لطالما كان يضعني أمام حالة وعي لدى كبار من الدينيين والمفكرين تفيد بأن الأصل في كل حركة إنسانية، مهما كان شكلها ولونها ومضمونها، هو «الإنسان» وما الدين إلا حركة الكلمة الإلهية في حياة الناس. لذا فجوهر هذه الحقيقة الدينينة إنما هو «الإنسان»، لذا مخطئ من يظن أن العلمنة في فكر المطران حداد كانت ابتعاداً عن جوهر دين آمن به! بل هي مقاربة لهذا الدين الذي رأى فيه أنه إنساني بامتياز، ولقد عبّر غبطته عن إنسانية هذا الدين، أو البعد الناسوي للدين «بالعلمنة». من هنا، فهو لم ينظر إليها من الزاوية الإلحادية أو النافية لشأنية الدين، بل بما هي «اللاطائفية» و«اللاعصبية» وهاتان النافيتان للطائفية والعصبية هما الضرورة القصوى التي باتت مجتمعاتنا بأمس الحاجة إليها.
وإذا كان منا من يعتبر أن الوصول إليها إنما يتم من خلال القراءة الخاصة للدين أو المذهب أو الفكرة والإيديولوجيا، فإن سيادة مطران الفقراء ذهب ليعتبر ضرورة وجود انتماء إيديولوجي في مقاربة الدين.
وهذا الرديف الإيديولوجي هو العلمنة التي أرادها المغفور له أن تستوطن السلوك الديني والممارسة الدينية. وعليه، كان من الجلي أن يصل صاحب هذا الطرح إلى مآلين:
الأول: أن يلقى الصدود من المؤسسة الدينية المسيحية أولاً، باعتبارها المعنية أولاً وبالذات بالانتماء الديني للمطران حداد، ثم بقية الطوائف والمذاهب الرسمية الأخرى باعتبارها قد تتأثّر بمثل هذه الطروحات التي لا ترتضيها، ولا ترتضي لجماعتها أن تتفاعل معها. وإننا وإن وجدنا بعض الخرق لهذه المواجهة عند رجال دين وناشطين تفاعلوا إيجاباً مع طروحات الروح المدنية لمشروع المطران غريغوار حداد، إلا أنّ المناخ العام كان متوقعاً بحجم سلبية موقفه تجاه هذا الأمر الذي بات يحتاج منا إلى نقاش مفتوح وهادئ ومسؤول.
الثاني أن يقلل غبطة المطران المنسوب النظري للطرح ليذهب فيه بعيداً نحو الممارسة والهموم العملية. لأنّ الأفق العملي لبلد مثل لبنان بكل ما فيه من مثاقيل التعددية والطوائفية، والاحتراب الذي أدخل المجتمعات اللبنانية بالمجهول، كان يحتاج إلى روحية رسولية بالمعنى العملي للبشارة أكثر من حاجته إلى الحفر التنظيري. ولقد أجاد غبطته عندما اكتشف نافذة ضوء مشرقة هي توفير القضايا الإنسانية المشتركة لناشطين اجتماعيين شباب أو من غير الشباب أيضاً. إذ في اعتقادي أنّ إنارة القضايا المشتركة وإحياءها بين شرائح مجتمعاتنا وطوائفنا ومذاهبنا هما الكفيل برسم المساء الإنساني المحب الرحيم في أوساطنا على اختلاف مناهجها وتياراتها وأديانها.
نتفق أو لا نتفق مع المغفور له سيادة مطران الفقراء، في ما عنون من حراك، هذا قضية. أما احترام جوهر المقصد الذي أراده من كل حراكه، فهذه قضية أخرى، إذ لها كل القداسة لأنّ طائفةً أو مذهباً أو إيديولوجيا خارج احترام الإنسان هي موت وجريمة. لذا، فلتسمح لي روح المطران غريغوار حداد بأن أودّعه بالقول: السلام على روحك يا نصير الإنسان، ومطران الفقراء المظلومين الكادحين.

* رئيس «معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة»