الأب ميشال سبع*

لا تيأسوا



غريغوار حداد... مطران الفقراء والعروبة والتحرير | غريغوار حداد عشق الحب المجاني الذي رآه ممثلاً في المسيح فتبعه، ووجد أن هذا الحب محارب من قبل أعداء ينتحلون صفاته، ويتكلمون باسمه وهم رجال الدين في السلطة المتحالفين مع البرجوازية من أجل قمع الفقراء والمحتاجين والمعدمين كي يبنوا عليهم سلطتهم. ومن أجل الدفاع با يؤمن، كان لابد أن يفضح زيف ادعاءاتهم من خلال كلمات المسيح نفسه، ومن مسار حياته. فالمسيح لم يتحالف مع البرجوازيين، بل انحاز إلى الفقراء لأنه اعتبرهم أقرب إليه، وأنهم يحتاجون إلى الحب لذا فهم قادرون على فهمه وقبوله والتفاعل معه.
والمال أحد أعداء الحب، لأن صاحب المال يفكر في أنه قادر على أن يشتري الآخر، فلا حاجة لحبه، لذا طالب كهنته عندما كان مطراناً في بيروت بأن يقوموا بخدماتهم مجاناً، وأوجد لهم صندوقاً يأخذون منه رواتبهم، وهذا ما دفع بعضهم ممن كان يعتبر خدماته كخدمات الشركات إلى أن يقف ضده. كذلك إن عدم مسايرته للزعماء في موائدهم وخدماتهم جعلهم يعتبرونه إهانة لهم، وقد قال له أحدهم: إذا كنت أنا مثل السائق عندي تجاهك، فهذه إهانة لا أقبلها، فتبسم له وقال: وأنا إذا اعتبرك أهم منه تكون إهانة للمسيح لا أتمكن من تحملها.
انطلاقة غريغوار اللاهوتية تقول: إن الإنسان مطلق في قدراته عن الحب والإبداع لذلك لا يوجد لا دونية ولا فوقية، وكلّهم سواسية ومن لا يعطي العامل حقّه فهو سارق ودفعه المال للكنيسة لا تبرر سرقته وقد اعتبر بعضهم هذا الكلام ماركسياً وسموا غريغوار بالمطران الأحمر.
لم يتعاط السياسة، لكنه كان في فكره اشتراكياً، ولم يقبل بأن تكون الكتب والتعاليم واللاهوت هي مصدر الفن الروحي، بل التجربة مع الآخر بالحب والعطاء المجاني. لذا طالب بتحرير المسيح من الكتب والتعاليم والكنيسة، فاعتبروه من الخوارج عن الكنيسة.
كان يمكن غريغوار أن يكون مصلحاً… ثورياً مؤمناً خارج الأطر الدينية الكلاسيكية، وبطبيعة الحال ضد الطائفية بالمطلق، لكن البرجوازية الدينية والتجارة المالية المتنافسة سياساتها (الإدارية) وكان انفجار الحرب الأهلية التي حرقتها وأحرقت معها الخطوات الأولى للإصلاح الغريغوري.
بعدما أنهكه الانحلال في جسمه، كان يطيب له أن يتابع أخبار البابا فرنسيس وهو يبتسم، وكان يرى أن بعض أحلامه تتحقق في رئيس الكنيسة، وكلّما مسح البابا دمعة طفل بائس أو صرخ ضد الجشع والرأسمالية المسؤولة عن الجوع في العالم، ترتعش شفتاه وكأنه يهتف معه. وكان يردد للشباب في التيار المدني: لا تيأسوا تابعوا فالمسيح ليس مسيحياً ولا دينياً هو إنسان مشبع بالألوهية، والد مشبع بالإنسانية فيكم. إنه يتحقق فيكم من خلال أمرين: حب لا ينتظر التبادل، وعمل لا ينتظر سلطة. وأغمض عينه بسلام طالما دعا إليه.
* مدير مجلة "آفاق"


اختار الفكر الحر



كانت عيناه تدمعان وهو يرى البابا فرنسيس يعيش السلطة الخادمة كما أرادها المسيح
قبل بدء أحداث الــ 75، كان غريغوار مطران بيروت كأنّه يرى أن الأمور آيلة إلى الخراب والصدام، وارتفاع وتيرة الشحن الطائفي لا يمكن إلا أن تنفجر. ألّف مجموعة صغيرة من المفكرين اللاهوتيين والمدنيين، وأطلق مجلة «آفاق» التي يمكن اختصار محتواها بالنقاط التالية:
1) أن الانسان هو مثيل ندي لله، مطلق في حبه وإبداعاته.
2) ومن أجل أن يحقق ذاته، يجب أن يتحرر من كل الكتب والتعاليم الفقهية واللاهوتية والتفسيرية كي يتلمّس تجربته الانسانية بعمقيها الروحي والبشري.
(3) أن التعامل مع الانسان المحتاج أكان فقيراً أو عاملاً أو يائساً، ليس من باب الحسنة ولا من باب التضامن، بل من باب تكاملية الجماعة التي تحقق مفهوم الحضارة الانسانية أكان في أرضها الوطنية أو أرضها الشمولية.
4) اعتبر غريغوار أن كل مظاهر السلطة والقمع لا تؤدي إلا إلى المزيد من الخراب للفرد، وبالتالي تتآكل الدولة من داخلها، فالسلطة تقتل نفسها. طبعاً كل أصحاب السلطات المدنية والدينية اعتبروا غريغوار عدواً لهم، واعتبروا أفكاره أشد هدماً من أي ميليشيا على الأرض، ففبركوا عليه خروجه عن التعاليم الدينية القويمة وخيّروه من خلال الفاتيكان إما أن يترك المطرانية وإما أن يترك «آفاق»، فاختار الفكر الحرّ على السلطة المذهّبة، واعتبر أنّ هيكل الرهبان لا يستحق المقايضة مع هيكل الانسان، وانحاز إلى الانسان. لقد عاش غريغوار مرحلة العمل التطوعي من خلال تأسيسه «الحركة الاجتماعية» في أول عهده، والتيار المدني في أواخر عهده، معتبراً أن العمل المجاني غني جداً بالعطاء والحبّ، وأن المال فقير في تقدير العمل المجاني، وقد تبعه آلاف من الشباب والصبايا مؤمنين بهذا العمل، وكان أغلبهم في أول عهده من البورجوازية اللبنانية. لكن مع سقوط البورجوازية اللبنانية بعد الحرب لصالح الرأسمالية والجشع، صار الشباب يحتاجون إلى عمل مأجور وليس تطوعياً، مما ضيّق فسحة رغبة غريغوار. ما زالت اليوم آثاره ظاهرة في كل من عرفه وسمع به، ولعل بارقة أمل بدأت تلوح في الأفق وكان قد رآها منذ أكثر من 40 عاماً، وتتجلى اليوم في ممارسات البابا فرنسيس الذي كانت عينا غريغوار تدمعان قبل رحيله وهو يراه يعيش السلطة الخادمة كما أرادها المسيح.
مدير مجلة «آفاق»