غريغوار حداد... مطران الفقراء والعروبة والتحرير | عام 1965، بدأ غريغوار حداد حياته اللاهوتية بتوقيع وثيقة تعهّد فيها ممارسة الفقر في حياته الشخصية. منذ ذلك الوقت، لم تكن مواقفه وآراؤه وممارساته سوى تجسيد للقب «مطران الفقراء»، بدءاً من مقالاته التي اقترحت لاهوتاً يتجاوب مع مقتضيات الواقع الاجتماعي والسياسي ومع أزمة الشباب في تحديد هويتهم وحيرتهم. شكلت مجلة «آفاق» التي أطلقها حداد مع بول خوري والأب ميشال سبع وجيروم شاهين عام 1974، منصة مثالية لنشر هذه المقالات والأفكار التجديدية والطليعية. كانت بمثابة منبره لطرح أسئلة أزعجت الكنيسة، وللعمل على تحرير البحث الديني من الجمود الجاهز والتزمت. الدفاع عن حقوق الفرد المدنية والسياسية، والدعوة إلى العلمانية الشاملة تصدرت هذه الأفكار التي أثارت موجة انتقادات عنيفة، عدّها كثيرون خروجاً عن الكاثوليكيّة، ما أدى إلى هجوم على حداد لترفع القضية إلى الفاتيكان. وفيما اتخذت «آفاق» موقفها بمساندة المسحوقين، أتت النهاية خائبة. اتُّخذ قرار بعزل حداد من الـ«سينودوس» الذي يترأسه رئيس أساقفة أبرشية بيروت وجبيل وتوابعهما مكسيموس الخامس حكيم، ليعيَّن كرئيس أساقفة أضنا شرفاً. أشعل هذا القرار احتجاجات شعبية مؤيدة للمطران ومنددة بالقرار. لكن هذا لم يمنعه من التفرغ كلياً للعمل الاجتماعي، وتحديداً محاكاة جروح اللبنانيين الذي كان قد بدأه في ستينيات القرن الماضي من خلال تأسيس «الحركة الاجتماعية» التي اهتمت بالشؤون الاجتماعية والفكرية، وكانت دافعاً لمواصلة أفكاره الأساسية، أهمها إقامة الحوار الإسلامي ـ المسيحي في سبيل إنماء العيش المشترك وتعميقه من خلال الحوار في أوساط الشباب، ونظرياً عبر محاولة الوصول إلى قواسم مشتركة بين الديانتين على صعيد الفكر اللاهوتي. في عام 2000، أسس حداد مع مجموعة من الشباب حركة سياسية مجتمعية علمانية تحت اسم «تيار المجتمع المدني»، سعت إلى بناء «مجتمع الإنسان»... "كل إنسان وكل الإنسان". كان ذلك قبل عامين فقط من تلقيه ضربة من الشاب المتطرف كارلوس عبّود، على أبواب مؤسسة «تيلي لوميير» وأمام كاميرات التلفزيون، عندما كان يستعد لبرنامجه الحواري. ضربة المتطرّف رمته أرضاً بسبب مواقفه، فلم يقابلها حداد إلا بالغفران. طالب المطران بإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية، وكان من أبرز الداعمين للزواج المدني. حتى جاء عام 2009، عندما شطب مذهبه من سجلّ نفوسه، ليعود لبنانيّاً كما كان دائماً. ومقابل اتهاماته بالإلحاد، أكد أنه «مؤمن بالعلمانية دعماً لإيماني بالله»، خصوصاً أن العلمانيّة قيمة إنسانيّة مستقلّة عن المنابع الدينيّة مع الحفاظ على التفاعل البنّاء. هذه الأفكار كلها، قرأناها وتابعناها أيضاً في مؤلفاته أهمها «العلمانية الشاملة»، و«تحرير المسيح والإنسان»، و«المسيحية والمرأة»، و«تأملات روحية» و«البابا ولبنان»...
* شكر خاص لـ «دار مختارات» على تزويدنا بالوثائق والصور لإنجاز هذا الملف