الهارب من «مستعمرة الله» سائحاً في «الشرق بعد الحبّ»ياسين تملالي
يروي «الشرق بعد الحب» (L’Orient après l’amour) الصادر عن Actes Sud (فرنسا) رحلات محمد قاسمي إلى العديد من «المدن الشرقية»، كمكة والقاهرة وصنعاء وبيروت وإسطنبول. وتفتتح الكتاب فصولٌ قصيرة تتناول نشأة المؤلف في زاوية صوفية في إحدى القرى الجزائرية، وأسفاره الكثيرة في موطنه الأصلي قبل هجرته إلى فرنسا عام 1981. وتتطرق هذه الفصول بسخرية قاسية إلى السنوات التي تلت الاستقلال، مُدينةً تصرّف قادة حرب التحرير «الأميّين» في البلاد كأنّها «غنيمة حرب»، وحملتَهم الشعواء على اللغة الفرنسية في الجزائر.
تكوّنت اقتناعات محمد قاسمي السياسية على قاعدة مقت هؤلاء «الأميين». أمّا هويته اللغويّة، فتكوّنت في كنف الهروب من العربية، «مستعمرة الله» كما يسمّيها، لأنّها ارتبطت في ذهنه منذ الصبا بجو الزاوية شبه الرهباني. في المدرسة، اكتشف الفرنسية فأصبحت لغتَه الأولى، لغة عبّر بها عن «أناه» التي لا قبل للعربية بالتعبير عنها، كما يقولوالظاهرُ أن هذه النظرة إلى العربية انتقلت إلى «العرب»، حيث نرى المؤلف يسرد أباه مردّداً مقولة ابن خلدون «إذا عربت خربت»، وكما لو كانت تعني العرب كشعب لا «الأعراب البدو». ويحكي في موضع آخر كيف ارتعب أطفال قرية صحراوية وهم يرونه وعائلتَه وكيف فروا صارخين: «عاد العرب». ويفسّر محمد قاسمي رعبهم بذكرى «استعباد العرب» لأهالي الجنوب، مع أنّ استعباد سود الصحراء بدأ قبل الفتوح الإسلامية بآلاف السنين. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ هذه النظرة إلى العرب كانت زاد الكاتب الوحيد في تطوافه في «الشرق» (كما يسمّيه على منوال المستشرقين).
ويروي أوّل ريبورتاجات الكتاب رحلة عمل إلى مكة في خضم حرب الخليج الثانية. يصف محمد قاسمي ببلاغة بذخَ العائلة المالكة العبثي ووطأةَ الدين على المجتمع والعنصريةَ الدينية التي تمنع غير المسلمين من مجرد الاقتراب من الحرم المكي. إلا أنّ صورة البلاد العامة في الريبورتاج مبتسرةٌ كل الابتسار، لسبب بسيط، هو أنّ الكاتب ظل طوال إقامته في السعودية حبيس البروتوكول الملكي. وقد عوّض عن هذا النقص بحديث بليغ عن «جنون الفتوى» في التلفزيون، وبحديث أقلّ بلاغة عن الوهابية، استند فيه إلى أطروحة شائعة تجزم بأن الجواسيس البريطانيين خلقوا هذه الحركة بغرض تأليب شبه الجزيرة العربية على العثمانيين.
ويحكي محمد قاسمي محاولته السفر إلى القاهرة عام 1979 وطرده من المطار بسبب تزامن وصوله إلى مصر مع اضطرابات تلت لجوء شاه إيران إلى هذا البلد. كان يومَ قدومه ـ يقول ـ يقرأ «المذكّرات المضادة» لأندريه مالرو، مستطرباً «لمعاتها» ( «اكتشفت الشرق كعربي على حماره، يهدهده نعاس الإسلام الأبدي»)، معجباً بـ «نبوءاتها» («العرب مصادفة من مصادفات التاريخ، والدليل على ذلك أنّهم لا ينتحرون»). ويحار القارئ في التنقيب عن ألمعيّة مالرو وحسّه التنبؤي في هاتين الجملتين، ولا يظفر من عنائه بشيء.
ويروي محمد قاسمي زيارته الثانية إلى مصر، فيبدع في وصف عاصمتها وفوضاها التي لا تشبهها فوضى وحمى الفتاوى العبثية التي ألمت بها كما ألمت بغيرها من مدن العالم العربي. وبغض النظر عن هذه «اللمعات» الساخرة ـ والجميلة أحياناً ـ تتميز صورة القاهرة في الريبورتاج بالابتسار نفسه لصورة مكة، فالكاتب لم يلتقِ من المصريين سوى عجوز «تبحث عن أميركي لتقتله» (هكذا) وطلبة فرانكوفونيين يؤمنون بأنّ «فرنسا تكره الإسلام بما أنّها تمنع الحجاب في مدارسها»، وسائقي تاكسي لا حديث لهم إلا عن الله حتى وهم يخرقون قانون المرور.
وإذا استثنينا الفصول المخصصة للقدس وتل أبيب ــــ وبدرجة أقل تلك المخصّصة لبيروت ـــــ لا يختلف الكتاب في مجمله عن الريبورتاج القاهري، في اختزاله بلداناً كاملة في حفنة من الكليشيهات. في صنعاء مثلاً، لا أثر تقريباً لأي صنعاني لكن صفحات طويلة عن تاريخ اليمن المسيحي وأفاعيل «القات» في اليمنيين والشبه بين المنقبات و«بقع حبر الصين». وفي فاس، لوحة سريعة عن بغاء الأطفال... وفي تونس لمحة عن سطوة بوليس الآداب، وفي إسطنبول رجال يتلمّسون أعضاءهم وهم يرقبون «الغربيات» وحكمٌ صارم لصديقته كلارا على الإسلام والمسلمين: «الإسلام بالنسبة إلى المسيحية واليهودية كالماكدونالد بالنسبة إلى الطبخ التقليدي».
وجاء وصف محمد قاسمي لسفره إلى فلسطين أكثر عمقاً لسبب واضح، هو أنّه التقى هناك أناساً حقيقيين، عرباً ويهوداً، وتأثر بحكاياتهم، فصوّر ببلاغة كبيرة حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال وعبثية نقاط التفتيش وعنصرية الجنود الإسرائيليين وسخف هوية «إسرائيل» العبرية. أما وصف سفره إلى بيروت، فتأرجح بين الإدراك العميق لمفارقات لبنان وهوياته المتناقضة وبين هاجس المد الإسلامي الذي لازمه على ما يبدو طوال تجواله في «الشرق». تقول صديقته هنريكا في حلمها على لسان جدتها: «في أول أيام الحرب (الأهلية)، رأينا أناساً ينزلون من الجبل كنّا نسميهم الشيعة. ولما رأوا لأول مرة في حياتهم أسفلت الطرقات (...) صاحوا: عرق السوس، عرق السوس، وانهالوا عليه يغرفونه بأيديهم. المسلمون، أينما حلوا، يملأون الطريق حفراً». ولا يعلِّق المؤلف بكلمة على هذا الحلم، ولا يسلم من سهامه السنة، فيكتب عن بيروت الغربية: «هناك حيث تموت الجهنميات ظمأً، تبدأ أرض الإسلام». ويضيف محاكياً «لمعات» أندريه مالرو: «لا يحب العرب غير الأشياء والكائنات التي دمّروها. لذا تراهم يتلذّذون بالحنين».
ويمكن القول إنّ الكاتب نجح في كسر صورة الشرق النمطية «بحماماته ومؤذّنيه ولياليه الألف» لكنّه استبدلها بصورة أخرى لا تغذّيها سوى ملاحظاته الجزئية العابرة. كما أنّه يبدي تسامحاً كبيراً في التعليق على آراء الكتّاب الأوروبيين عن «الشرق» الإسلامي، فهو مثلاً لا يعقّب على إحدى مقولات أرنست رينان العنصرية («الإسلام هو ضيق العقل السامي المروع») بغير هذه الجملة: «لم تولد هذه النظرة السلبية إلى الإسلام من عدم (...)، فمن القدس إلى القسطنطينية، يعبق الإسلام بروائح البارود والدم». و«الغرب» في «الشرق»، ألا يعبق حتّى اليوم «بروائح البارود والدم»؟ لا جواب في الكتاب عن هذا السؤال.
في حديث إلى المجلّة الأدبيّة الفرنسية Le Matricule de Anges، عبّر المؤلف عن إعجابه برحلات فلوبير «الشرقية» واستشهد على انفتاح أفق الكاتب الفرنسي بما قاله عنه إدوارد سعيد في «الاستشراق». لنقرأ الصفحة الـ18 من «الاستشراق». يقول إدوارد سعيد: «لنأخذ مثلاً لقاء فلوبير بغانية قابلها في مصر: لا تتكلّم هذه المرأة عن نفسها ولا تجهر بشيء من عواطفها وحضورها وتاريخها، هو مَن يقدّمها إلى قرائه ويفسر لهم لماذا هي في رأيه «شرقية حتى النخاع». إذا استثنينا قصة سفر محمد قاسمي إلى فلسطين ـ وبدرجة أقل قصص أسفاره إلى بيروت ـ نجد حقاً بعض الشبه بين «انفتاح أفقه» و«انفتاح أفق» فلوبير، فنحن لا نكاد نسمع صوت «الشرقيين» في كتابه، لأنّه ينوب عنهم في الكلام كما ناب مؤلف «مدام بوفاري» عن غانيته الخرساء.