حسين بن حمزةفي كتابه «مقام الجنس وتصوّف الحواس» (الريّس)، يقيم نصري الصايغ كرنفالاً شعرياً للجسد. الجسد، بحسب نصوص الكتاب، مدعوٌّ للتخلّص من الإحساس بالإثم، والزهو برغباته وشهواته، والتجرؤ على المكبوت فيه. يستدعي الصايغ التاريخ والنصوص الدينية والصوفية والشعرية لكي تعمل في خدمة نصّه، وفي تعزيز معاني هذا النص وطموحاته. لتحقيق ذلك، يتخلّص هو نفسه من التوريات والمواربات. يكتب بلغة تجعل المخبوء والمشتهى طافياً على سطح العبارات والصور. «الجنس لغتي»، يقول الصايغ في مستهل الكتاب الذي ينفتح على ممارسات متعددة تصبّ جميعها في مدح الجسد وإطلاقه من الأسر. والأسر هنا شخصي أحياناً. إذْ ينتبه القارئ إلى تسرُّب التجربة الذاتية إلى النصوص، وهو ـــــ على أي حال ـــــ سمة كلِّ كتابة شعرية. في المقابل، ثمة نيّة لإخراج الجسد من أسر الجماعة الساهرة على تحويله إلى قمقمٍ وحبس الشهوات «الشريرة» في داخله. الجسد يحضر بمفرداته وتفاصيله المباشرة. لنقرأ: «الإبطُ ركوة الرغبات»، و«ارفعي الثدي إلى مقام السروة»، و«قيلولة الشبق»، و«أَقِمْ بين الحلمتين عُريكَ»، و«لعبتُ على حبل بكارتها/ طبعتُ على فرجها وشم الريح»، وأخيراً: «ردفان من سطوةٍ وانسياب/ ... / سبحان ما بينهما/ ما حولهما/ ما فوقهما/ ما تحتهما/ ما دونهما/ ما فيهما/ ما لذَّ وطاب/ ملكوتٌ ولا خلاص». التسميات الواضحة تتراءى في معظم المقاطع. وتمجيد الجنس ـــــ كفعلٍ حرٍّ وغير جالبٍ للخجل والذنب ـــــ هو مطلب الشاعر من أوّل الكتاب إلى آخره. الغناء هنا ـــــ إن وجد ـــــ هو إما غناءٌ فاجرٌ وهلوسة رغبات متروكة وفالتة، وإما نشوة حواسٍ يُستبدلُ فيها الجنس المحضُ بمعجم التصوّف: «نحن جسدان حللنا جسداً/ اثنان لا يتثنَّيان أبداً/ فسبحانكِ ما أعظم شأني».
يتجاسر الصايغ على الجسد، لكنه لا يفعل ذلك بخفّة الماجن ونهم المعربد وحدهما. ثمة ثقافة كاملة مستثمرة في هذا السياق. الشعر هنا محمول على منصّة فلسفية وتاريخية ودينية. الشواهد والاقتباسات الكثيرة مجلوبة لكي تنصرَ الشاعر في تحدّيه للنظرة السائدة التي تخطِّئُُُ الجسد من دون الاستماع إلى أهوائه وغرائزه. الشاعر يقول للقارئ إن كثيرين سبقوه إلى ما يفعله الآن. هؤلاء هم أسلافه وأقرانه الذين يقوّي حضورهم مرافعة الشاعر في حضرة الجسد. بهذا المعنى، يمكن استقبال اقتباسات ابن الفارض والحلاج وابن عربي وامرئ القيس والأعشى ومجنون ليلى وجلجامش وأدونيس وجمانة حداد (التي يقرُّ بفضل كتابها «عودة ليليت» على إنجاز كتابه هو)، وثقافة الجنس عند الفراعنة واليونان والهنود وفي سِيَر القديسين. هكذا، يبدو الصايغ كأنه يقود حملةً لا هوادة فيها على الصيغة التي كُتب بها تاريخ الجسد، فيصل به الأمر إلى معارضة قصة الخلق، شاهراً اسم «ليليت» حواء الأولى التي لم تخضع لآدم، مقترحاً «سفر التكوين الثاني» بديلاً لسفر التكوين الأوّل.
أخيراً، تبقى ملاحظة بشأن شعرية نصوص الكتاب. فالقارئ المدعو إلى جرعة هائلة من مدائح الجسد، غالباً ما يشعر بتفوُّق الموضوع على تقنيات كتابته. لعلّ هذا عائد إلى تجربة الصايغ التي طرقَ فيها أجناساً كتابية متعدّدة، ولم يخلص للشعر وحده.