تواظب القاصة اللبنانية الشابة على كتابة جنس أدبي في طريقه إلى الانقراض... فإذا بها تشقّ درباً وعرة متسلّحةً بنبرة تقتصد أكثر مما تسرد وتثرثر
حسين بن حمزة
نقرأ مجموعة بسمة الخطيب «شرفة بعيدة تنتظر» (دار الآداب)، ونقول لأنفسنا: من أين تستمدُّ هذه القاصة اللبنانية اندفاعها ومثابرتها على كتابة القصة القصيرة. هذا الجنس الأدبي في طريقه إلى الانقراض، ونُعيَ في أكثر من عاصمة عربية، بل هو منقرضٌ إذا حصرنا الكلام على الساحة اللبنانية. إذْ ليس عندنا أجيال أو تيارات أو أساليب... ولا حتى أسماء كافية، كي نتحدث عن مشهد قصصي ولو كان ضيِّقاً. هذه ملاحظة ضرورية لدى الكلام عن تجربة الخطيب التي تكتب كمن يشقُّ درباً وعرة. وعليها أن تعبّدها وتسير عليها رغم أنّ فكرة أن يرافقها أحد أو يتبعها هي احتمال ضئيل إن لم يكن معدوماً.
«في ذكرى زواجنا غيّرنا غرفة النوم. السرير، المفرش، الستائر، الموكيت، لون الجدران ... ولكن بقي شيء عتيق يطقطقُ، كلّ ليلة، فوق السرير الجديد». لو قرأنا هذا النص في ديوان شعري لاستحسناه وأُعجبنا بالذكاء والمهارة اللذين كُتبا به، لكن ما سبق ليس قصيدة قصيرة، ولا مقطعاً من قصيدة طويلة. إنّه «سرير جديد»، القصة الأولى من المجموعة.
منذ البداية، إذاً، ننتبه إلى أننا نقرأ قصة ذات مذاق مختلف عما نحن معتادون أو متهيئون لقراءته. القصة ــــ في معظم قصص المجموعة ــــ تتحقق بنبرة تقتصد وتمحو أكثر مما تسرد وتثرثر، فضلاً عن أنّ القصص نفسها مرويّة من زاوية شديدة الخصوصية. هذه الزاوية هي التي تباغتنا. المسألة ليست في جسم القصة أو مشهديتها الواقعية أو الافتراضية، بل في الطريقة المقترحة لقراءتها. يُدهش القارئ للمفارقة التي تضعه أمامها المؤلفة التي تبدو كأنّها تُخبر حكايات عادية وبسيطة، ثم سرعان ما تأتي قفلة مدهشة لتُعيد إنارة القصة من أولها إلى آخرها. هنا نفهم لِمَ كانت القصة تتراءى لنا هادئة ومتروّية، وأي تقنيات وحِيَل وألاعيب أسلوبية استُخدمت لتجعلها بهذا الهدوء. نحسّ أحياناً أنّ الخطيب تمتلك روحيّة السرد والشعر معاً ليتسنى لها أن تكتب قصة تشبه القصيدة لناحية الكثافة وكيفية معاملة المفردات... والأهم كيف تبدو القصة في النهاية، استعارة كبرى أو ضربة شعرية واحدة.
نقرأ ونقرأ، فنجد المادة ذاتها التي تذوقناها في أول قصة. وهي مادة يصعب شرحها ونقلها من دون قراءة فعلية للمجموعة. ما نسميه مادةً هنا غالباً ما يكون القصة كلها تقريباً. ثمة تساوٍ بين فكرة كل قصة في الكتاب وبين السعي الحثيث إلى إدهاش القارئ وإقناعه بها. في «قصاصات»: البطلة الشغوفة بتجميع قصاصات مما يُنشر في الصحف والملاحق الثقافية، مسمّيةً ذلك «أرشيفها»، لا تجد سوى الإهمال والسخرية والخيانة من زوجها. وحين يتطلّقان «بسبب عدم التكافؤ الفكري»، تُفاجئ ــــ أو لا تُفاجئ بالأحرى ــــ حين يرسل لها الزوج شاحنةً تحمل أغراضها ومستحقاتها، وبينها قِطَع الكريستال التي تجدها «ملفوفة بعناية بقصاصات الملاحق الثقافية، أي ما كنت تسميه أرشيفها». هذه الخاتمة المباغتة تتكرر ــــ بكيفيات متنوعة ــــ في قصص أخرى، كما هي الحال في «ليلة بيضاء» التي تبدأ بموظف ثلاثيني يصرخ على التلفزيون: «... كيف أطعمُ أولادي الخمسة»، وتنتهي باكتشاف الساردة أنها كانت موعودة يوماً لتكون زوجة له... فتختم القصة بـ«كيف أنام وخمسة أطفال، كان يمكن أن يكونوا أطفالي وأكون حاملاً بسادسهم، ينامون جَوْعى، ويشاهد العالم عيني والدهما الرماديتين الجميلتين تختنقان بدموعٍ عصيَّة؟».
التنوع في الحكايات يأخذ صاحبة «دانتيل لسهرة واحدة» إلى استثمار عالم الحيوان لكتابة قصص تتحلّى بعنصر المباغتة نفسه. هذا ما نقرأه في «أرض أقل قسوة» و«الراقص» و«رقصة الثأر» و «الحقل» و«نحيب»، حيث الأبطال هم على التوالي نسر، ودب، وثور، ودجاجة، وضفدع. لا يتغير الكثير في هذه القصص الأقرب إلى عالم الأطفال، سوى أنها مرويّة لقارئ يمكنه تحسُّس الآلام والخسارات والعزلات الإنسانية، وهي تنتقل، في محاكاة ذكية، إلى عالم الحيوان. لنأخذ قصة «الحقل» مثالاً، إذْ تكتشف البطلة ـــــ الدجاجة أنها مسوقةٌ إلى حقل ألغام ستنفجر بها وبزميلاتها، كي يصيح أحد الجنود في النهاية: «الحقل آمنٌ الآن... تقدموا». شيطان القصة عند بسمة الخطيب موجود دائماً في الخاتمة.