المدينة التي يصوّرها شوقي عماري في «ثلاث درجات، شرقاً»، مسرح مليء بالمفاجآت، يقف عليه أبطال يائسون... أناس سئموا كل أشكال العنف المادي والمعنوي
ياسين تملالي
بعدما جاب بهم مجاهل صحرائه الأليفة في «حفار الثقوب» (Le faiseur de trous ــ البرزخ 2007)، عاد الكاتب شوقي عماري بقرائه في «ثلاث درجات، شرقاً (A trois degrés, vers l’Est ــــ الشهاب) إلى أجواء حضرية مجنونة، أجواء مدينة اسمها الجزائر، تحالف الواقع مع مخيّلته ليحولاها إلى مسرح سريالي مليء بالمفاجآت. وعلى الرغم أنّ بعض نصوص هذه المجموعة القصصية سبق أن نشرت، فإنها لم تفقد شيئاً من نضارتها ومن حدة تمثيلها الساخر ـــ والحزين ـــ لمناخ التسعينيات المشحون بالآلام.
بلد اختفى فجأة سكّانه، ففرغت شوارعه وأصبحت قطاراته تسير بين مدن شبحية في تأرجح بطيء عبثي. حرفي عجوز يقضي يومه في نحت مسامير من كتل حديدية وتكوين كتل حديدية من فائض مساميره. قتلة يقضون على ضحاياهم بمجرد الضغط على زناد مصوراتهم. شاب لا يتحكم في انتصابه أمام نقطة تفتيش أمني، فيجد نفسه وجهاً لوجه مع مفتش شرطة هو زوج عشيقته. عاصميان يستدلاّن في رحلتهما إلى الجنوب الصحراوي بخريطة زائفة ويعودان إلى الشمال خائبين وقد دفنا في الرمال آخر آمالهما.
هذه بعض شخصيات «ثلاث درجات، شرقاً»: تبحث عن السلوان في ابتداع أساطير جديدة واللعب على أوتار لغة تقطر يأساً وسخرية. شخصيات نرى بالكاد أعناقها في طوفان العنف الذي أغرق البلاد: عنف الشرطة والإسلاميين وعنف زلازل اقتصادية رهيبة مدت فوضى المدينة إلى الجزائر كلّها وأتت على ما بقي سالماً من نمط حياتها العتيق. عنف يفسّره الكاتب على لسان أحد رواته، لا بأحداث سياسيّة كحظر جبهة الإنقاذ الإسلامية أو انقلاب كانون الثاني (يناير) 1992، بل بحتميات جغرافية، لا يشاركه الإيمان بها سوى «تندي» أحد أبطاله الحكماء ـــ المجانين.
يصوّر شوقي عماري أبطاله كأناس سئموا عنف الجزائر المادي والمعنوي، إلا أنّهم لا يمقتونها، أو قل إنّهم يضمرون لها من الحب قدر ما يضمرون لها من الحقد، ويجتهدون في أن يعيشوا فيها ناظرين إلى ما يجري فيها من اغتيالات وتفجيرات كهلوسات عابرة، يشيحون عنها بأبصارهم ويواصلون طريقهم، دائماً نحو الأمام.
ويبدو الإحباط القاسم المشترك الأول بين شخوص «ثلاث درجات، شرقاً»: إحباط سببه اقتناع راسخ بأنّ عجلة التاريخ تجرّ البلاد نحو هاوية سحيقة ووعي عميق بانسداد آفاق الخلاص الفردي. أما ثاني قاسم مشترك بينهم، فهو إيمانهم بأن لا حل لهذا الوضع التراجيدي سوى اللامبالاة والتهكم المرّ. هذا التهكّم الذي يملأ به شوقي عماري أفواه شخصياته يحوّل الشرطي والمناضل الإسلامي، الغني والفقير، الشاب والعجوز إلى ممثلين يؤدون أدواراً روتينية حزينة في مسرحية مؤلف سادي غريب الأطوار.
ويصوّر الكاتب سنوات التسعينيات بكاريكاتورية، وإن نأى تماماً عن الكوميديا الضاحكة الصاخبة. رجال الشرطة ليسوا في قصصه «دعائم النظام» المؤمنين بواجب استمراره، بل صعاليك يكرهون أعداءهم «الملتحين كما تكره عصابة مافياوية عصابة مافياوية منافسة. أما الإسلاميون، فلم تعد لهم من قضية سوى إرضاء رغبة أزلية في ثورة مطلقة عدمية».
ومن الواضح أنّ شوقي عماري استلهم بعض أحداث التسعينيات، إلا أنّه حورها بما يضفي عليها صبغة هزلية. مثلاً في أحد النصوص، تظهر هدنة 1997 (بين الجيش الجزائري وجيش الإنقاذ الإسلامي) في صورة اتفاق حُوِّلَت الحانات بموجبه إلى أماكن اللجوء السياسي الوحيدة في البلاد، إلى «أراضٍ مقدسة» يحكمها قانون «العناية» الذي يحتّم إيواء المطاردين مهما كان الجرم الذي اقترفوه.
ورغم غلبة الجو الحضري على قصص شوقي عماري، لم تغب عنها الصحراء تماماً، فأطول هذه النصوص (80 صفحة) ـ وأجملها ـ ذلك الذي يروي سفر شابين عاصميين إلى الجنوب وتوههما فيه. وتبدو الصحراء فيه عالماً يستعصي على الرجل المديني فهمه بسبب اقتناعه الراسخ ـ والغبي ـ بأنّ مركز ثقل التاريخ الجزائري في الشمال الأخضر المتوسطي لا في الجنوب القاحل الأفريقي وأن زبدة الذكاء الإنساني هي التلون مع «الحداثة» لا الاستسلام اللامشروط للطبيعة والتقبّل التام لنزواتها.