وسام م. جبران *خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة في بداية 2009، أعلنت لجنة «مهرجان الأغنية الأوروبية» (يوروفيجن)، حضور إسرائيل في المهرجان الذي أقيم في أيار (مايو) الماضي في موسكو، ممثّلةً بالفلسطينية ميرا عوض واليهوديّة الإسرائيليّة أحينوعام نيني. وافقت عوض على المشاركة، في توقيتٍ مأزوم أثناء مجزرة غزّة. لكنّ قضيّة مشاركتها ـــــ رغم الانتقادات الشديدة ـــــ تضعنا أمام مشهدٍ نموذجيّ يعكس حالتنا الثقافيّة الهُلاميّة، وأساليب تعاملنا مع أزمة هُويّتنا.
ما هو هامش حريّة خوض التجربة الشخصيّة في مَتْنِ الخطاب المبدئي؟ أو بصيغةٍ أخرى: إلى أيّ مدى يحقّ للفرد الفنان أن ينفتح على التجربة والخطأ داخل قضايا لا تخصّ الشخص وحده، ولها أبعادها الاستراتيجية وتداعياتها المُقلقة؟ هنا أقول: أمام المجازر تتراجع الفلسفة، وأمام مشاهد أطفال يتفحّمون، تنكمش المُناورات الفكريّة داخل المعاني الضَحلة. الفاعل هو مَن تمثِّله ميرا عوض في مهرجان موسكو على مرأى العالم. خلال مراسلاتي معها، تحدّثَت عوض عن صراعاتها الداخليّة وكشفت ذاتها كفنانة بالغة الحساسيّة إزاء انعكاس التناقضات الحادّة التي تعيشها ونعيشها جميعاً كفلسطينيين داخل وطننا المسلوب.
أنا لا أتفق مع موقفها، لكنني لا أعطي نفسي الحقّ بأن أكون وصيّاً على فنّانٍ آخر. لا يمكنني إلا أن أسجّل انطباعي حول ما حدث، وهو يشكِّل ظاهرة خفيّة، تنفضح بين حين وآخر بحسب حجم الحدث وانكشافه إعلاميّاً... وأقول باختصار: شهوة الأضواء وارتباك الوعي السياسيّ والانصهار في حياة تل أبيب «الليبراليّة/ الليليّة»، كلُّ هذا يضجّ في قرار تمثيل إسرائيل في المهرجان. لا يمكن ميرا عوض إلا أن تكون على علْمٍ تام بأنها ستقوم بدور ورقة التين التي «ستغطّي» بواسطتها إسرائيلُ عوراتِها، ومع ذلك فهي تصرّ على ضرورة «الاستمرار في اختراق المجتمع اليهودي» لأن ما عدا ذلك، في رأيها، هو وهم لا تريد أن تعيشه!
احترام فردانيّة الفنان، والابتعاد عن التعامل بمنطق الوصاية الأخلاقيّة والسياسيّة، لا يعفينا من التنبّه إلى الفرق بين الفردانيّة المتألّقة والمُخلخِلة للسائد وبين الانفراديّة المتخاذلة والمصلحيّة. من حقّ الفنان ـــــ الفلسطيني أيضاً ـــــ والإنسان الفرد عموماً، أن يخوض تجربته الشخصيّة. من حقِّه أن ينفتح على الخطأ وعلى التجربة. لكن ليس من حقِّه أن يرقص على الدماء، ولا أن يتدنّى في وعيه السياسي عن وعي الشارع الفطري والطبيعي، وليس من حقِّه أن يستغبي العالم. عندها، سيفقد هذا الفنان صدقيّته، وسيستقيل من دوره الحيويّ، بصفته المَعْقل الأخير للمقاومة.

* مؤلف موسيقي فلسطيني مقيم في الناصرة