أورويل التروتسكي اعتنق السياسة طريقاً للعدالة، أما وو المحافظ فاختار الإيمان. «الرجل نفسه: جورج أورويل وإيفلن وو في الحب والحرب» بحث عميق في سيرتي أديبين تجمعهما الجنسيّة وكوّنهما الشيء ونقيضه
زياد عبد الله
يمكنك منذ الطفولة أن تعرف إن كنت ستصبح محافظاً أو ليبرالياً، وذلك من المدرسة تحديداً التي تشكّل في النهاية مجازاً أولياً عن الحياة نفسها. إن كنت مثل جورج أورويل الذي أمضى طفولته يتلقّى لكمات الأقوى، ويبلّل سريره في مدرسة داخلية لا تعرف الرحمة، ويهرب حين يحتفلون بعيد ميلاده، فأنت ليبرالي. أمّا إن كنت مثل إيفلن وو عنيفاً ذا قبضة لا تعرف الرحمة، وتعتبر المدرسة مكاناً مثالياً لإثبات الذات، فإنك ستكون من المحافظين. هذه خلاصة كتاب «الرجل نفسه: جورج أورويل وإيفلن وو في الحب والحرب» (راندوم هاوس ـــــ لندن) لدايفيد ليبدوف، حيث نتتبع سيرة الكاتبين الإنكليزيين في محاولة توثيقيّة تسعى للمجاورة بين حياتيهما. مفارقات السيرتين المدهشة، تؤكد خصوصية كل واحد منهما. التباينات بين حياتيهما تمسي تصاعدية منذ الصفحة الأولى من الكتاب، ما يجعل من عنوانه مدعاة للرثاء والضحك في آن، رغم محاولات ليبدوف المضنية إثبات العكس عبر تحليل أخلاقي لرؤى الكاتبين المستقبلية.
في الحقيقة، لا شيء يجمع بين جورج أورويل وإيفلن وو سوى ولادتهما عام 1903 وحملهما الجنسية البريطانية. وما بقي من عوامل فهو شبه متروك للكتاب المليء بالأحداث والشخصيات: آلام أورويل ومسرّات وو، وعورة حياة الأول، تدفقها وسلاستها مع الثاني، ليبرالية الأول ويساريته التروتسكية، محافظة الثاني ثم كاثوليكيته المتطرفة. علاقتهما الشخصيّة، إذا صحّ التعبير، لا تتجاوز إلا بضع مقالات متبادلة، ونسخة من «مزرعة الحيوانات» أرسلها أورويل إلى وو لدى صدورها عام 1945، ولقاء يتيم كان فيه أورويل على فراش الموت.
مقدمة الكتاب سينمائية بامتياز: نحن في حفلة أرستقراطية تحتفي بإيفلن وو في حزيران (يونيو) 1930 بعد إصداره روايتي «هبوط وسقوط» و«أجساد بغيضة». ثمّ ينتقل بنا ليبدوف إلى شاب يصارع الآلة الكاتبة، في علّية بيت أخته، وزوجها يقول لها «لم أعد قادراً على احتمال ذلك». الرجل الذي في العلية هو إريك آرثر بلير (اسم أورويل الحقيقي)، وذلك بعد عودته من باريس، والرواية التي يكتبها هي «متشرداً في باريس ولندن».
يتضح منذ البداية أن الطبقية هي الكلمة المفتاح في الكتاب والمشكل الرئيس لوعي الكاتبين. أورويل من «أرستقراطية مقطوعة» يسمّيها هو «أدنى الطبقة العليا». والده ريتشارد بلير يعمل في المؤسسات الاستعمارية البريطانية وتحديداً في «الوكالة الهندية للأفيون» التي تؤمن له دخلاً لا بأس به (400 باوند سنوياً)، يقتطع منه الكثير ليدرِّس ابنه في «أيتن» أعرق المدارس البريطانية مصنع صنّاع القرار، المتبوعة عادةً بدراسة في جامعتي «كامبريدج» أو «أكسفورد».
في المدرسة، سيتشكل وعي أورويل السياسي. لقد وقع ضحية ظلم طبقي يمارسه عليه زملاؤه الذين يجدونه الأفقر بينهم، وأسهمت في تعزيزه بنيته الضئيلة وحساسيته المفرطة وانطوائيته. هو يقول عن نفسه: «لم أكن ذا نفع ولم أستطع أن أكون... لم يكن انعدام المال فقط سبباً في ذلك: كانت القوة، الجمال، السحر، البنية الرياضية وشيء يسمّى «المآثر» أو «الشخصية» والتي هي في الواقع القدرة على فرض إرادتك على الآخرين. لم يكن لديّ أيّ من تلك الخصال».
لم يمض أورويل إلى «أكسفورد» أو «كامبريدج» بل لاذ بالفرار إلى بورما وعمل هناك في الشرطة الإمبراطورية الإنكليزية، وصار يتنقّل من عزلة إلى أخرى. الحياة لم تهبه أي شيء بيُسر، بما في ذلك الكتابة التي كانت تتطلب منه «بذل جهد مضاعف لتستسلم له الكلمات».
«كان أورويل حيواناً سياسياً، لا يستطيع أن ينفخ أنفه ما لم يتبين مدى أخلاقية صناعة المناديل». كان مسكوناً بمجاز الخنازير في «مزرعة الحيوانات» بعد مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية. كان مسكوناً أيضاً بنظرة مستقبلية نعيشها اليوم في «1984»، وكانت سبب مواصلته الحياة حتى فرغ منها، وحيداً مع ابنه بالتبنّي ريتشارد بعد وفاة زوجته، يدخن رغم السل الذي ينهش رئتيه، ويكتب بلا توقف في كوخ بقرية اسكتلندية نائية. قبل وفاته بشهر عن عمر يناهز السابعة والأربعين تزوّج للمرّة الثانية.
على الضفة الأخرى وبالتناوب، تمضي حياة إيفلن وو، أو «الفلوريد» (صاحب الوجه المتورد)، الذي ينحدر من طبقة وسطى لا خلفية أرستقراطية لها. والده كان صحافياً ومحرراً في دار نشر. لم يدرس في «أيتن»، لكنه كان يتمتع بـ«المآثر» و«الشخصية» ويلقّن الضعفاء درساً في القوة. أصبح لاحقاً طالباً في «أكسفورد» من دون أن يكمل دراسته فيها. هناك كان أخوذاً بعوالم الجامعة أكثر من مواد الأدب اللاتيني، وعينه على الأرستقراطية الإنكليزية. هذه الطبقة سيدخلها من الباب العريض عبر شهرته ككاتب كوميدي، وعبر زواجه بإيفلن غاردنر سليلة الأمراء والدوقات التي تقع في غرام رجل آخر وتطلب منه الطلاق. انتقم وو من غاردنر في روايته «حفنة من التراب» عبر شخصية زوجة خائنة يكون نبأ وفاة ابنها أخفّ وقعاً عليها من وفاة عشيقها. لاحقاً تزوّج مجدداً من لورا هربرت وهي أيضاً أرستقراطية بـ«امتياز».
أصبح لإيفلن وو الكثير من الأولاد والكتب وتحوّل من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، وفي الحرب العالمية الثانية ذهب مع رالف وينستون تشرشل إلى يوغسلافيا للقاء تيتو الذي قاد حركة المقاومة ضد النازيين حينها. انتقل في أدبه من حسه الساخر ولسانه السليط إلى حساسية أخلاقية دينية، تجد الإيمان بالحياة الآخرة معبراً لصلاح الحياة الدنيا. روايته Brideshead Rivisited «برايدزهيد معادة» شهدت تحولاً كثيفاً للتخلص من المتع والملذات مقابل ما بعد الحياة، بنثر كان مثار إعجاب أورويل رغم إيمان الأخير بأن ما بعد الحياة يعطل الحياة.
تبقى انطباعات إيفلن وو عن جورج أورويل في زيارته الوحيدة له محط حيرة وبحث في «الرجل نفسه». رغم حرص وو على كتابة يومياته، إلا أنّه لم يكتب شيئاً عن تلك الزيارة، واكتفى بالقول لصديقه مالكوم ماغريدج: «كان أورويل قريباً من الله». يجد لبيدوف تفسيرين لهذه العبارة: الأولى أن أورويل قريب من الموت وبالتالي من الله، أو أنّ وو رأى فيه إلهاً. ويرفض الكاتب توصيف ماغريدج للكاتبين بـ«لوريل وهاردي» ويستبدله بـ«ليو تروتسكي وكولونيل بلمب» (شخصية كرتونية إنكليزية ساخرة).
من جهته، كان أورويل يأخذ وو على محمل الجد. بعكس النقاد اليساريين الإنكليز، كان يفهم تماماً من أين يأتي أدب وو ويراه ناثراً عظيماً من دون أن يمضي معه. كل ما في الكون بالنسبة إلى أورويل سياسي، كما كان الإيمان بالنسبة إلى وو المفهوم الذي يتمحور حوله العالم. السياسة لدى أورويل لا علاقة لها بالنتائج الانتخابية، إنها صراع يومي بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، والإيمان في الحياة الآخرة ليس إلا عذراً لانعدام الفعل.
في النهاية، تبدو كل محاولات ليبدوف لدمج الرجلين في رجل واحد عبثية وخصوصاً أمام المقالات التي كتبها كلاهما عن روايات الآخر وتضيء عمق الاختلاف رغم الإعجاب الذي لا يتخطى تقنيات الكتابة والسرد.


الطريق المسدود

يؤكد أورويل في أحد مقالاته أن «سياسة الاقتصاد الحر وإلغاء الدور الحكومي قد ماتا بعد الحرب العالمية الثانية». لكنّ صاحب «1984» سرعان ما يكتشف خطأ تحليله كون الولايات المتحدة صارت الأقوى في العالم مع اقتصاد هو الأكثر رأسمالية وخصخصة. يبقى السؤال ما الذي كان سيقوله أمام الأزمة الماليّة الحاليّة، بعدما وصل الاقتصاد الحرّ إلى حائط مسدود؟