في «المدونة الكبرى... الكتاب المقدس والأدب»، قدّم الكاتب الكندي الراحل تحفةً نقديّةً في قراءة الأسطورة وحكايات الكتاب المقدس، وعلاقة كل ذلك بالأدب واللغة من خلال سؤالين: ما الذي يعنيه الكتاب المقدس أدبيّاً؟ وكيف أثّر في بنية الأدب؟
نوال العلي
تزامنت قراءتنا «المدونة الكبرى... الكتاب المقدس والأدب» (صدر عام 1983، ودخل أخيراً المكتبة العربيّة) لنورثروب فراي، مع مشاهدة الشريط الوثائقي «التضحية» للسويدي طارق صالح. وإن لم يكن ثمّة علاقة مباشرة أو واضحة بين الاثنين، فإنّ الإمعان في تفصيل صغير ــــ ليس هو موضوع الكتاب لكنّه إحدى نتائج قراءته ــــ قد يجعل المقاربة معقولة. وهذا التفصيل متعلّق بما يمكن وسمهُ بـ«التاريخ البديل».
في «التضحية»، يتتبّع طارق صالح قصة سيرو بوستوس الذي أدّى دور يهوذا الإسخريوطي في حياة تشي غيفارا، كما تقول الروايات الرسمية. لكنّ سماع رواية بوستوس وتتبّع صدقيّتها قد يعيدان كتابة سيرة غيفارا وبوستوس، وقد يقلبان تفاصيل كثيرة في التاريخ المكتوب. كذلك يفعل الناقد الكندي الراحل في «المدوّنة الكبرى للكتاب المقدس» («منشورات الجمل» و«كلمة») الصادر بترجمة تستحق التقدير لسعيد الغانمي. إذ يحدث فجوة في التسليم بالكتاب المقدس ككتاب تاريخي، ويسوق مثالاً على ذلك «الصورة التهريجية التي يقدّمها الكتاب المقدّس لـ «أخاب» و«بيت أومري» (ملكَي إسرائيل)، فيما تقدّم الوثائق الاشورية صورة تحيط بيت أومري بكثير من الاحترام».
وإذا كان التاريخ وتنقيباته، واللقى الأثرية ما زالت تكشف عن روايات تناقض المكتوبة أحياناً، ألا يجدر إذاً التفكير في تلك الروايات التي لم نقرأها، أو لم نصدقها، أو لم نحفل بها لنكشف عن تاريخ بديل للعالم يفضّ التجمهر حول روايات الكتب السماوية المقدسة. ذلك التجمهر الذي جعلها كتباً متحزّبة، ومصادر ضعيفة للتاريخ، مثلما يصف فراي الكتاب المقدّس في أحد المواضع. فإذا كان هنالك خلل ما في قراءة تاريخ العالم، فالعيب ليس في المقروء... بل في القارئ بوصفه كاتباً في هذه الحالة.
وليس هذا التفصيل سوى جزيئة صغيرة ضمن شروح طويلة لفراي عن أطوار تحوّل اللغة. وهو ــــ كما سبق أن قلنا ــــ ليس ثيمة الكتاب الأساسية التي يمكن صياغتها بسؤالين: ما الذي يعنيه الكتاب المقدس أدبيّاً؟ وكيف أثّر في بنية الأدب؟
وبغضّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ما يراه المؤلف، من أنّ قراءة الأدب الغربي لا تصحّ أو لا تستوي من دون قراءة الكتاب المقدس الذي أعمل تأثيراً في الخيال الغربي كله ـــــ والتساؤل إن كان يمكن تطبيق هذا على علاقة النص القرآني بالأدب العربي مثلاً ـــــ فقد قدّم فراي تحفةً نقديّةً في قراءة الأسطورة وحكايات الكتاب المقدس وعلاقة ذلك بالأدب وتطور استعمال اللغة، ولا سيما وقد كرّس «المدونة الكبرى» جزءاً كبيراً منه لنقد الصورة الفنية وبنية السرد في الكتاب المقدس. وفي الحقيقة إنّ الكتاب قد يستفز أحدهم لشدّة ما يعامل النص بتجريد، غير أنّ هذه السمة نفسها هي ما تمنحه حيويته ككتاب في النقد يقترح نمطاً جديداً لقراءة الأدب، يُسبغ عليه ربط النصوص المقدسة بالأساطير ومجازات اللغة لذةً ذهنيةً يمنحها الكاتب بسخاء لقارئه. سمة معروفة عن صاحب «تشريح النقد» الكتاب الذي قدّم فراي إلى القارئ العربي من قبل.
ينقسم الكتاب إلى جزءين رئيسيين. يعرض فراي في الأول نظريته عن تطور اللغة ثم الأسطورة المنقولة على لسان هذه اللغة وينتهي بالبحث في التنميط اللغوي. ويعود ليقلب الحال في الجزء الثاني من الكتاب، فيبدأ الناقد من حيث انتهى، أي من التنميط فالمرحلة الاستعارية وصولاً إلى اللغة، مطلقاً على طريقته هذه الأسلوب «المرآوي».
ويجمل فراي مراحل اللغة بثلاثة أطوار، يتمثّل الأول في الطور الاستعاري فالكنائي ثم الوصفي. ويخص بالتفصيل المرحلة الأولى التي قامت عليها لغة المجتمعات القديمة. إذ تنتفي المسافة بين الكلمة وما تدل عليه، ويلتحم فيها الدال بالمدلول. وبهذه اللغة، كُتبت الأساطير والكتاب المقدّس، فإذا كانت كلمة Kairos لدى هوميروس تعني لحظةً زمنيةً فاصلةً، فإنّ معناها الحرفي هو الثلم في القوس. وهذا يعني، من وجهة نظر نقدية، أنّه بينما لم تكن المفاهيم استعارية عند هوميروس، هي كذلك بالنسبة إلينا.
وبالعودة إلى لغة الكتاب المقدس التي استندت إلى «الترجمة اليونانية السبعينية عند الإحالة على العهد القديم» كما يشير فراي ـــــ فضلاً عن أن الترجمة الفالغيّة ظلت تمثّل الكتاب المقدس في أوروبا الغربية ألف سنة ـــــ يرى فراي أنّ لغة الكتاب المقدس كتبت بتركيز كالذي يوجد في الشعر. ولذلك فهو يرتبط بشروط لغته، على عكس القرآن المستند إلى العربية أصلاً ومنطقاً والشروح التلمودية والكابالاه المستندة إلى النص العبراني للعهد القديم. فهل يعني هذا اعتبار النص المترجم للكتاب المقدس نسخةً من الدرجة الثانية؟ أحد الأسئلة الكبيرة التي يبحث فيها الكتاب.
ويذهب فراي إلى البحث في الاندماج الكبير بين الأدب الكلاسيكي وزمن المسيح، منذ فيرجيل وأوفيد مروراً بالكوميديا الإلهية... وحتى «الرجل الذي مات» لـ دي. إتش لورنس، وانتهاءً بـ«رؤيا» لوليم بتلر ييتس. وعلى رغم أنّه كتاب يمثّل حلقة أساسيّة في طريقة فراي النقدية، فإنّه لا يدّعي أنّه دراسة أكاديمية، وليس هو بعمل لاهوتي من جهة أخرى. إنّه كما يقول صاحبه، مواجهته الشخصية مع الكتاب المقدس.