امرؤ القيس، شكسبير، إبسن، بريخت، ماركيز، عبد الرحمن منيف، صنع الله إبراهيم، الطاهر وطّار، الطيّب صالح... يبحر الناقد العراقي ياسين نصير في كتابه «الاستهلال» (دار نينوى) عبر التراث الأدبي العربي والغربي، بحثاً عن خصائص أسلوبية للجملة الاستهلالية
خليل صويلح
هل انتبهنا إلى أهميّة الجملة الأولى في نصٍّ ما، بوصفها مفتاحاً للنص كلّه؟ وهل يفكر الكاتب فعلاً في العبارة الاستهلالية؟ ياسين نصير يقتفي آثار بعض النصوص القديمة والجديدة، لمعرفة أين يكمن السرّ في نسيجها، متسائلاً عن القوة التي تمتلكها الجملة الاستهلالية، في معمارها المتماسك أم في دقة التعبير، وكيفية انفتاح قوس النص على اتساعه لإضاءة مناخ العمل الأدبي ككل؟ في «الاستهلال: فن البدايات في النص الأدبي» (دار نينوى ـــــ دمشق)، يبحر الناقد العراقي في التراث العربي بحثاً عن خصائص أسلوبية للجملة الاستهلالية، مستشهداً بآراء النقّاد القدامى بـ «حُسن الابتداء، أو براعة المطلع». إذ يشير القزويني في «التلخيص في علوم البلاغة» إلى أنّه «ينبغي للمتكلم أن يتأنّق في ثلاثة مواضع من كلامه، أحدها الابتداء». ويجد في مطلع قصيدة امرئ القيس «قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل..» نموذجاً استثنائياً للوقفة الطللية في الشعر الجاهلي. أما ابن الأثير، فيؤكد أنّ «براعة الاستهلال من أخصّ أسباب النجاح في الخطبة»، وكذلك أسامة بن منقذ «أحسنوا الابتداءات فإنها دلائل البيان». هكذا تتحوّل الجملة الاستهلالية داخل النص إلى علامة تلازم كل المفردات اللاحقة، وذلك من خلال الفعل التوليدي لها داخل البنية الكليّة للنص، كأنها «تفتح السبيل إلى ما يتلو» وفقاً لما يقوله أرسطو.

قصيدة السيّاب عنوانها يعتمد على المجاز
في نظرة إلى ملحمة «جلجامش»، نجد أنّ الاستهلال بدأ بعبارة «هو الذي رأى كل شيء» التي تتكرر في المتن، فيحمل الجزء معنى الكل في دلالات متعدّدة تنفتح على المستقبل. وهو ما نقع عليه في استهلال «الإلياذة» و«الأوديسة». ويتوقف الباحث عند مفهوم الاستهلال في الشعر الجاهلي، وخصوصاً في المعلّقات، معتبراً أنّ مطلع القصيدة «قضية قائمة بذاتها». فالوقوف على الأطلال، كان كياناً عضوياً يخضع لمتطلبات القصيدة ككل، وقد فرض المكان ـــــ الصحراء ـــــ على الشاعر بناءً شعرياً هندسياً «متكرّر الوحدات والوظائف»... إلى أن أتى الشعراء الصعاليك وتمرّدوا على هذا القالب والوظيفة الاجتماعية للشعر نفسه، ليحل الاستهلال الفروسي بدلاً من الاستهلال الطللي. سيمتلك الاستهلال في الأدب الحديث بنية مختلفة، وإن ارتكزت على الموروث والملحمة القديمة والسيرة الشعبية. أما الشعر، فشهد انقلاباً في البنية. إذ بات الاستهلال مختزلاً بكلمة أو استعارة مكانية. ويتوقّف نصير عند بنية الاستهلال السردي في مسرحيات شكسبير وابسن وبريخت. وإذا بالاستهلال يمتد إلى مشهد أو فصلٍ كامل، لكنّ مسرح اللامعقول أطاح هذه البنية لتتحول المسرحية إلى «صرخة حادة بوجه الوجود كله».
ويلفت الكاتب إلى أنّ «ألف ليلة وليلة» نموذج أصيل لبنية الحكاية الشعبية في طريقة السرد، وخصوصية الاستهلال في معمارها الحكائي. هي لا تكتفي باستهلالٍ واحد، بل باستهلالين، الأول يتعلّق بالليالي «بلغني أيها الملك السعيد»، والثاني بالحكاية «أعلم أيها الملك السعيد»، ثم تتوالد الحكايات في أنساق وخصائص سردية تنهض على التشويق في صوغ الحدث. وهو ما ينطبق على معمار الحكاية الشعبية عموماً لجهة زمن الحكي «يحكى أن»، أو «كان ياما كان». وهذا ما انسحب لاحقاً على السرد القصصي والروائي، وفقاً لما يتطلبه التدوين. ويعدّد نصير أنواعاً من الاستهلال الروائي. هناك الاستهلال الموسّع، والمحوري، والمتعدد الأصوات، والمكثّف، ليتوقف عند نماذج من أعمال نجيب محفوظ (الحرافيش)، وفؤاد التكرلي (الرجع البعيد) وعبد الرحمن منيف (مدن الملح)، وصنع الله إبراهيم (نجمة أغسطس)، والطاهر وطّار (اللاز)، والطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، وصولاً إلى رواية ماركيز (مائة عام من العزلة) التي تعكس زمناً ميثولوجياً مشبّعاً ومشهدية متعددة الدلالات «بعد سنوات طويلة، وأمام فصيل الإعدام، تذكّر الكولونيل أورليانو بونيديا.». وهو ما وضع الرواية الحديثة عند مفترق استهلالي مختلف، يعتني بالرؤية الكلية للأشياء والأماكن وزخم حضور الموروث داخل السرد الروائي، وتالياً ردم الهوة بين الأجناس الأدبية، وبناء كيان لغوي ومعرفي ينفتح على العلاقات الداخلية للنص من جهة، وعلى فاعلية التلقي من جهة ثانية.
ويطرح نصير نموذجاً تطبيقياً في تفكيكه للبنية المغلقة للاستهلال بقراءة جمالية للاستهلال في قصائد بدر شاكر السيّاب، متسائلاً: «كيف يبني السيّاب استهلالات قصائده؟». يلحظ أولاً أنّ عنوان القصيدة لدى السياب يفرض سيطرته المعرفية واللفظية على استهلالها، في وعيٍ متدرج لشروط الحداثة، سواء في مغايرة الاستهلال للعنوان، أو لجهة اعتماد الأسماء والحروف، وانتقالاً إلى الدلالة الفكرية للفعل، كما في «أنشودة المطر» في حمولتها الأسطورية والميثولوجية «عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر». هذا المطلع ينطوي على أسرار وغموض وإبهام، رغم أن الكلمات مألوفة واعتيادية. لكن المجاز المتوالد منحها ألقاً شعرياً خاصاً. إذ تختلط الضمائر وتتداخل الأزمنة، إضافةً إلى الطاقة الأسطورية المشحونة بالصور عبر ثنائية الضوء والعتمة، والتكثيف الجمالي للعالم.