في «ديمومة المسألة الفلسطينيّة» الذي صدر بالعربيّة عن «دار الآداب»، يرصد الباحث والأكاديمي النقدي تحوّل اليهود، بعد عبورهم المتوسط، من مضطَهَدين إلى مستعمِرين، ويقرأ النزاع الصهيوني/ الفلسطيني أنطولوجياً من خلال ثنائيّة الذكورة والأنوثة... ويقف عند تنازلات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة
ديما شريف
عندما صدر «ديمومة المسألة الفلسطينية» (2006) بالإنكليزية، قوبل في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية بالتجاهل حيناً وبالاستنكار أحياناً... على غرار كلّ ما كتبه جوزيف مسعد عن «القضية المركزيّة». مع ذلك، وجد المثقفون الإسرائيليون «التقدميون» في كتاب الباحث الفلسطيني «مساهمةً قيّمةً في الجدل القائم والمستمر بِِشأن الصهيونية وفلسطين»، على حدّ تعبير الباحثة إيلّا شوحاط. من جهته، رأى إيلان بابه ـــــ أبرز المؤرّخين الجدد في إسرائيل ـــــ فيه بحثاً يدفع إلى تغيير الصور النمطيّة عن تاريخ فلسطين ومستقبلها. اليوم، صدر الكتاب بالعربيّة (دار الآداب)، بعدما أسهم مسعد في ترجمة فصوله. وفيه يقارب صاحب «اشتهاء العرب» (2007) «المسألة الفلسطينية» كامتداد للـ«مسألة الشرقية» (الإمبراطورّية العثمانيّة) و«المسألة اليهودية» في الوعي السياسي الأوروبي. فقد وقع الاختيار على فلسطين أرضاً للدولة الصهيونية عام 1903، بعدما تأكّد قادة الحركة أنّه لا أحد سيمنحهم أرضاً على القارة العجوز. وعند تسمية «حرب الاستقلال» المرادفة في الأدبيات الصهيونيّة لنشوء إسرائيل، يسأل مسعد: عمّن استقلّت تلك الدولة؟ هل استقلّت عن فلسطين باعتبار الأخيرة من مسمّيات الـ«كولونيالية»، فيما تسمية «إسرائيل» إحالة إلى مرحلة «ما بعد الكولونيالية»؟ بهذا المعنى، جاء توصيفها دولة اشتراكيّة لدى بعضهم، لتناقض المفاهيم الاشتراكيّة، كآلية للدفاع في وجه الاستعمار، مع الكولونيالية. هنا، يراجع الكاتب بعض أدبيات مؤرّخين إسرائيليين روّجوا لنشوء إسرائيل في سياق النضال ضد الكولونيالية، أمثال المؤرخ الماركسي إيزاك دويتشر ويوئيل مجدال وأنتوني آبيا.
يشرِّح الباحث الفلسطيني والأستاذ في «جامعة كولومبيا»، في كتابه المعرّب حديثاً، تحوّل اليهود ـــــ بعد عبورهم المتوسط من أوروبا إلى فلسطين ـــــ من مضطَهَدين إلى مستعمِرين. خلال هذه الرحلة أيضاً، تحوّل اليهود من أشخاص واهنين جسدياً إلى «اليهود الصلاب» بحسب تعبير بول براينز، وذلك بعد انغماسهم في الزراعة والعمل العسكري في الأرض الجديدة، وكلّها مهن ذكورية بامتياز حُرموا ممارستها في بلادهم الأمّ.

البراغماتية أفسدت جزءاً من المثقفين الفلسطينيين

في هذا السياق، مثّلت فلسطين بالنسبة إلى اليهودي مكاناً جوهرياً لتفتّح ذكورته، بحيث كان خارجها «أنثوياً». هنا، لا يغفل مسعد استخدام القيادات الفلسطينيّة مصطلحات العنف الجنسي لدى مقاربة العنف الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، مثل «اغتصاب الأرض»، و«إجهاض السلام». هذا الحقل المعجمي يتماهى مع الخطاب الإسرائيلي نفسه عند إنشاء الدولة، لناحية أنّ «فلسطين أرض بكر سيفضّها اليهودي ويخصّبها». في هذه الدولة، تطال الممارسة العنصرية علاقة الأشكيناز بالسفارديم: ألم يستقبل اليهود الأوروبيون أقرانهم الشرقيين بالمبيدات، لدى قدومهم إلى «أرض الميعاد»؟ ألم يرسلوهم إلى مناطق خطرة، ما أدّى إلى انتفاضتهم في وجه الحكومة.
في موضع آخر، ينتقد مسعد الفلسطينيين الذين يرون واهمين أنّ نفاذهم إلى الخطاب الغربي المسيطر يساعد في تعزيز الموقف الفلسطيني، ملاحظاً تسلل التعابير الأميركية والإسرائيلية إلى الأدبيات الفلسطينية. كذلك ينتقد منظمة التحرير الفلسطينية التي غدت ـــــ من خلال اتفاقياتها مع إسرائيل ـــــ المنظمة التحررية الوحيدة في التاريخ التي سعت إلى التحرر عبر قيامها ببيع الموارد التي تريد تحريرها، إلى رأس المال العالمي، قبل تحريرها! ويرى الباحث أنّ مصالح الفلسطينيين تباعدت بعد توقيع تلك الاتفاقيات، إلى حدّ التخلّي عن حق العودة بعد هزيمة 1982 وإخراج المقاومة الفلسطينيّة من لبنان، وطغيان مطالب فلسطينيي الداخل على ما عداها، بعد وعود بمنافع «دولة وهمية عتيدة».
هكذا، طرحت القيادة الجديدة حلولاً براغماتية لحقّ العودة تقول بـ«احترام مخاوف إسرائيل الديموغرافية». هذه البراغماتية غزت الفلسطينيين وأفسدتهم، يقول مسعد، وخصوصاً المثقفين منهم الذين اتّبعوا سياسات تكييفية تجاه العدو، ودعوا إلى بناء الدولة عوضاً عن التحرير الوطني. وينظر المؤلّف إلى بعض النخبة الفلسطينيّة من منظار المفهوم الغرامشي لـ«المثقّف العضوي»، طارحاً أمثلة، بينها حنان عشراوي التي تخلّت عن «كلّ شيء لأجل منصب في الدولة العتيدة».
يشرّح الباحث أيضاً سيطرة الابستيمولوجيا الدينية العرقية على الفكر الصهيوني، وتجلّيها في نزعة التفوّق العرقي على العرب. زوال هذه النزعة قد يمكّن الفلسطينيين من بناء دولتهم في الضفّة والقطاع، أو إنشاء دولة ثنائية القومية مع الإسرائيليين، على كامل الحدود التاريخية لفلسطين. وفي الفصل الأخير، يتحدّث مسعد عن تحويل الفلسطينيين إلى «يهودية شتاتية من دون أرض»، وما يرافقه من التزام الصهيونية بإبادة «يهود الشتات» أنطولوجياً، وتحويل «اليهودي» إلى معاد للساميّة. من هنا، فقمع إسرائيل للفلسطينيين إنما هو كبح للـ«يهودي» داخلها. لماذا ديمومة المسألة الفلسطينية؟ يسأل مسعد. ذلك عائد إلى ارتباطها عضوياً بـ«المسألة اليهودية». أمّا حلّ هاتين المسألتين فيكمن في رفض اللاسامية التي تعبّر عن كره الصهيونية لـ«يهودية» اليهود والفلسطينيين معاً.