روايته «نجمة» هي النصّ المؤسس للأدب المغاربي الحديث، كتبها بالفرنسيّة التي تعامل معها كـ«غنيمة حرب»، فيما اعتبر الفرنكوفونية امتداداً للمشروع الاستعماري. مطلع السبعينيات، ترك «صالونات باريس» وعاد ليؤسّس فرقته في «سيدي بلعبّاس». الجزائر والعالم العربي يحتفلان اليوم بالذكرى العشرين لرحيله
باريس ــــ عثمان تزغارت
انقضى اليوم عشرون عاماً على رحيل الأديب والمسرحي الجزائري كاتب ياسين (2 آب/ أغسطس 1929 ـــــ 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1989). وتتذكّر الجزائر صاحب «نجمة» من خلال ملتقيَين عن فكره وأعماله، الأول ينظّمه «المسرح الوطني» في الجزائر العاصمة، والثاني تشرف عليه وزارة الثقافة الجزائرية في مسقط رأس كاتب ياسين في منطقة الأوراس (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة).
في موازاة ذلك، تشهد أعمال كاتب ياسين إقبالاً متجدّداً، بدءاً بروايتَيه «نجمة» و«المضلّع المرصّع بالنجوم»، وأعماله المسرحية الكاملة التي يعاد إصدارها هذه الأيام في كتاب بعنوان «مجزرة الأمل»، وصولاً إلى كتاباته الصحافية التي أشرف ابنه أمازيغ على تجميعها في كتاب مشوّق بعنوان: «12 ساعة بعد منتصف الليل» (منشورات «سوي» ـــــ باريس، و«شهاب» ـــــ الجزائر)، ليضاف إلى كتاب آخر ضمّ أشهر حوارات كاتب ياسين الصحافية، وحمل عنوان «الشاعر مثل الملاكم» (1994).
أما أكثر هذه الإصدارات تميزاً، فهو كتاب أشرفت على إصداره رفيقة درب كاتب ياسين، ووالدة ابنه أمازيغ، زبيدة شرقي، بعنوان «لأنها امرأة...»، ويضمّ حوارات صحافية وأشعاراً ونصوصاً مسرحية («صوت النساء»، «ديهيا أو حرب الألفي سنة»...) تعكس نضالات كاتب ياسين المؤيّدة لحقوق النساء.
من خلال كل هذه الفعّاليّات الاحتفالية والإصدارات المتجددة، تحيّي الأوساط الثقافية الجزائرية في كاتب ياسين واحداً من أبرز مثقفيها وأكثرهم طليعية والتصاقاً بهموم المسحوقين والبسطاء، ودفاعاً عن القضايا العادلة عبر العالم، من فيتنام إلى فلسطين. أينما حلّ، كان كاتب ياسين يخلّف وراءه زوابع من الجدل، والنقاشات الحادة. كان يردّد دائماً أن وظيفة المثقف الثوري هي «إشعال الحرائق على كل الجبهات». ما زال الجزائريون يذكرون تصريحاته النارية التي تحدّى فيها تسلّط نظام «الحزب الواحد» السابق، حيث لم يتردّد في إدانة النزعة الشمولية لـ«الدولة الوطنية» الجزائرية، منذ سنوات الاستقلال الأولى.
هو الذي انخرط في حركة التحرير الوطنية الجزائرية، في أواخر الأربعينيات، وكان في السابعة عشرة من عمره. ثم كان ضمن أوائل من جهروا بالمعارضة، إذ أطلق صرخته المدوّية: «لم نخرج من ثورة تحريرية لنقبل أن تكمّم أفواهنا».
والأوساط المناهضة للإمبريالية عبر العالم ما زالت تذكر النبرة المدوّية للخطاب المفتوح الذي أرسله صاحب «الرجل ذو النعل المطاطي» في كانون الأول (ديسمبر) 1970، إلى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون من هانوي، حيث أقام أشهراً طويلة، وعايش المقاومة الفيتنامية إلى جانب هوشي منه والجنرال جياب.
ولم تمضِ أسابيع قليلة على عودته من فيتنام، حتى انطلق إلى مخيمات اللاجئين في لبنان، ليعايش المقاومة الفلسطينية (راجع مقالته عن سقوط المفكّر الشيوعي اللبناني مهدي عامل/ حسن حمدان، ص 18)، ليخرج من تلك التجربة بمسرحيته الشهيرة «فلسطين المخدوعة» التي قضى أشهراً طويلة وحيداً، في إحدى بلدات جنوب لبنان، متفرغاً لتأليفها.
تلك النضالات وغيرها التي خاضها كاتب ياسين على كل الجبهات، جعلت رفاقه يرفعون فوق واجهة بيته المتواضع في حيّ بن عكنون، غداة وفاته، لافتةً كبيرةً كُتب عليها: «تحية إلى إرهابيّ القضايا العادلة»! حتى وهو على فراش المرض في مدينة غرونوبل الفرنسيّة، حين زاره الرئيس ميتران، لتسليمه الجائزة الوطنية الفرنسية للآداب، لم يتردّد «الأسد العجوز» عن توجيه سهامه النارية إلى «الفرنكوفونية الرسمية».
يومها، خاطب الرئيس الفرنسي، قائلاً: «إنني أعتبر اللغة الفرنسية مكسباً وغنيمة حرب، لكنني أدين الفرنكوفونية السياسية التي هي مشروع استعماري جديد يهدف إلى تكريس تبعيّتنا».
لكن كاتب ياسين لم يكن، فقط، مثقفاً صدامياً وقف في طليعة النضالات من أجل التحرّر والديموقراطية وحقوق الأقليات والمسحوقين والمهمّشين والنساء، بل كان أيضاً كاتباً عبقرياً.
روايته «نجمة» التي نالت شهرة عالمية، فور صدورها عام 1956، كانت بمثابة النصّ المؤسس للأدب المغاربي الحديث. كانت قد صدرت، منذ أواخر الأربعينيات، أعمال مغاربية عدّة، من «الأرض والدم» لمولود فرعون، إلى «الأفيون والعصا» لمولود معمري، مروراً بثلاثية محمد ديب. لكن «نجمة» هي أول عمل مغاربي استطاع خلخلة النظرة الاستشراقية التي كانت تسعى إلى تكريس جمالية «النظرة الساذجة» إلى أدب المستعمرات.
وقد روى كاتب ياسين، في أحد حواراته الصحافيّة، أن أحد أعضاء لجنة القراءة في منشورات «سوي»، وبعدما قرأ مخطوطة «نجمة»، أعرب له عن خيبته قائلاً: «إن بنية نصّك هذا معقّدة للغاية. مع أنكم في الجزائر لديكم خرفان جميلة جداً de si jolis moutons، فلماذا لم تتحدث عن الخرفان في روايتك»! على الرغم من الشهرة العالمية التي نالها، والمكانة المرموقة التي حظي بها في فرنسا، فور صدور «نجمة»، فإنّ كاتب ياسين لم يكن مرتاحاً للكتابة باللغة الفرنسية التي كان يعتبرها «غنيمة حرب»، أيام النضال ضد الاستعمار، لكنها أصبحت لاحقاً «منفى لغوياً» يحول دون تواصله مع جمهوره وناسه في الجزائر. من هذا المنطلق، جاء قرار كاتب ياسين، مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، بالتحوّل نحو الكتابة المسرحية بالعربية العامية، ثم أخذ تدريجاً يدافع عن الخصوصيّة الأمازيغيّة. وقد أعلن قراره بوضوح:
«لقد قررتُ ترك «صالونات باريس» والابتعاد عن نخبوية «مثقفي الكتب»، ووجدتُ في الكتابة باللغة الشعبية وسيلةً لا تضاهَى للتواصل مع ناسي وشعبي بشكل مباشر، من دون وسائط أو حواجز جمركية».
لم يكن التحول سهلاً، باعتراف كاتب ياسين نفسه: «حين دخلتُ المدرسة الفرنسية، وأنا في السابعة، أحسستُ وكأنني أرتمي في فم الذئب.
وظللتُ طيلة حياتي أقاوم الاغتراب الثقافي واللغوي، وأعاني من جحيم الكتابة بلغة نخبوية غير قادرة على أن توصل كتاباتي إلى الجمهور الأساسي الذي أريد مخاطبته. ولم أتخلّص من تلك العقدة إلا بعدما أسّست الفرقة المسرحية، وبدأت التأليف لها بالعربية الشعبية (يقصد العاميّة الجزائريّة).
كنتُ خائفاً في البداية، وغير واثق تماماً من قدرتي على الإبداع بهذه اللغة. لكنّني سرعان ما اكتشفتُ كنوزها الخفية وتوهّجها الحيوي المذهل.
كنتُ أذهب كل أسبوع إلى سوق الحرّاش (سوق شعبية في ضواحي العاصمة الجزائرية)، وأبقى ساعات طويلة أستمع إلى ذلك المزيج العجيب من الأصوات والتعابير واللهجات.
وكالتلميذ في المدرسة، رحت أدهش في كل مرة لحيوية هذه اللغة وقدراتها التعبيرية الفذّة...». تفرغ كاتب ياسين حتى وفاته في خريف 1989، للتأليف المسرحي بالعامية، ضمن فرقة «مسرح البحر»، ثم في «المسرح الجهوي لسيدي بلعباس»، مؤسّساً بذلك لتجربة مسرحية طليعية، كانت أبرز محطاتها «محمد خذ حقيبتك» (1971)، «صوت النساء» (1972)، «حرب الألفي سنة» (1974)، «ملوك الغرب» (1976)، و«فلسطين المخدوعة» (1977).
بينما بقي عمله المسرحي الأخير عن نيلسون مانديلا غير مكتمل (راجع المقطع المترجم منه ص 19).


عبر أجسادنا تمتدّ النّار،/ لكن حرارتنا مسروقة./ نسكن المعابد،/ لكن أرواحنا تظل مقفرة. نحترق،/ ووسط وهجنا نموت من البرد./ «نجمة»،/ عودي من نهاياتكِ السيّئة./ لم يعد هنالك قبر،/ فتقبّلي دفء الموت./ إنه التناسخ أقترحه عليكِ/ أنا، رفيق فراشكِ./ ستولدين ثانية في مكانكِ،/ بالملامح نفسها./ فنحن لا شأن لنا بالقطط./ القطط تسافر من أجل المتعة،/ ودون مخاطر./ هي لا تحافظ على أيّ نار،/ لذا فهي هادئة دوماً./ هل لاحظتِ أن الإنسان والعقرب/ وحدهما ينتحران؟/ كلّ الحيوانات سائحة على الأرض،/ نحن وحدنا نعيش حقاً./ لو كانت تعيش،/ لكانت تكدح،/ لكانت تنتحر،/ أو كانت لها أحياناً/ شجاعة ركوب الطائرة/ حبّاً بالحياة!

كاتب ياسين من قصيدة «بعيداً عن نجمة» (تعريب ع. ت.)


الجزائر تحتضن «أيّام كاتب ياسين»



حول مائدة صاحب «نجمة»، يتحلّق حاليّاً في العاصمة الجزائريّة ناشطون ومثقفون وفنانون وجامعيون وصحافيون ونقاد. «أيّام كاتب ياسين» تحتضن على مدى ثلاثة أيام عروضاً مسرحيّة وحلقات نقاش، تتناول إرث الكاتب الجزائري، لمناسبة مرور عشرين عاماً على رحيله. المبادرة أطلقتها فرقة مسرح «الغوسطو» التي يديرها المسرحي زياني شريف عيّاد، تحت رعاية وزارة الثقافة، وبالاشتراك مع جريدة «الجزائر نيوز» التي يرأس تحريرها أحميدة عياشي. طموح هذه التظاهرة أن تتحوّل إلى موعد سنوي للمسرح المتوسّطي والثقافة المتوسّطيّة، تحت راية كاتب ياسين، يشمل لقاءات تكريمية لأعلام الفكر والأدب والموسيقى والمسرح. النسخة الأولى من المهرجان الهادف إلى «إعادة الاعتبار للذاكرة الجماعيّة من خلال الإنجازات الفكريّة والفنيّة»، تعقد إذاً تحت عنوان «كاتب ياسين... عشرون عاماً على رحيله»، ويشتمل البرنامج على عروض سينمائية وموسيقية ومحاضرات ومعارض تشكيلية.
الانطلاق كان أمس مع عرض «نجمة والشهاب» لأرزقي ملال وزياني شريف عياد، على خشبة مسرح «قصر الثقافة مفدي زكريا». واليوم تقام طاولة مستديرة بعنوان «كاتب ياسين: الصداقات الانتقائيّة ورفاق السلاح» يديرها بن عمار مديان. كذلك تعقد بعد الظهر حلقة نقاش ثانية بعنوان «كاتب ياسين: مفكر خارج القوالب»، يديرها محمد لخضر موغال. وتحتلّ الكلمة الجزء الأخير من النهار، مع قراءات ممسرحة تنطلق عند الثامنة مساءً، بعنوان «كاتب ياسين، القلب بين الأنياب» لبن عمار مديان، و«12 ساعة بعد منتصف الليل» لمحمد لخضر موغال. يشارك في الندوات مسرحيون وصحافيون من العالم العربي، من بينهم روجيه عساف من لبنان، وزينب فرحات من تونس.
اليوم الثالث والأخير مخصص غداً لمائدة مستديرة حول «المسرح العربيّ المعاصر»، يديرها زياني شريف عياد، تليها حلقة نقاش بعنوان «كاتب ياسين الصحافي» يديرها أحميدة عياشي. وسيكون الختام غداً، عند الثامنة مساءً، مع عرض «الماشينة» من إخراج زياني شريف عياد، وهو مقتبس عن عمل للمسرحي الجزائري الراحل عبد القادر علولة، بعنوان «القوَال» (1980)، وهو الحلقة الأولى من ثلاثيّة تلاها «الأجواد» (1985) و«اللثام» (1989).

حتى 29 تشرين الأول (أكتوبر) ــــ «قصر الثقافة مفدي زكريا» و«قاعة لعدي فليسي». للاستعلام: [email protected]