الليلة نرتجل شعراً في «مسرح المدينة»بشير صفير
يبدو أن زمن الأغنية السياسية ولّى في لبنان، تماماً كما باتت أغنية الاحتجاج في الغرب من الماضي. إننا نعيش اليوم زمن الراب. تلك الظاهرة الموسيقيّة التي أبصرت النور في الولايات المتحدة، قبل أربعة عقود، على يد أبناء الضواحي وأحياء السود الفقيرة الساعين إلى إيصال تجربتهم الخاصة، وغضبهم واحتجاجهم... مع السنوات صار الراب اتجاهاً موسيقيّاً، حالة عالمية ومحلية لا يمكن تهميشها.
في أميركا، انحرفت هذه الحالة لاحقاً، وأصبحت باباً سريعاً للثراء. قد لا تكون انحرفت إلا جزئياً، لكن الجزء المنحرف منها كان أكثرقدرة على الانتشار للأسباب التسويقية المعروفة. أما في لبنان، فانطلق الـ RAP أواسط التسعينيات، واتبع المدرستين الأميركية والفرنسية، لكونهما مصدري التأثير المباشر على مجتمعنا. لكنّ تيار الراب اللبناني ولِد في الأصل مصاباً بلوثة مكان الولادة. العديد من الشباب المراهق الذي خاض هذه التجربة، كان ينزع ملعقة الذهب من فمه موقتاً خلال الحفلات، ثم يعود إلى موقعه الطبقي المترف ما إن يهدأ الصخب. هكذا أتت النصوص إما مصطنعة تحكي عن معاناة وهمية، وإما ركيكة تتناول المشكلات بشيء من السطحيّة... لكن، وبغَضّ النظر عن السجال الممكن حول الحاجة الفعليّة إلى استيراد هذا الشكل الموسيقي الغنائي، لا مفرّ من الاعتراف بأن بعض التجارب فرضت نفسها على الواقع المحلّي، ونجحت وتجذّرت وصار لها جمهورها. فرق قليلة توصّلت إلى أن تكون «حقيقية». ليست «كتيبة ــــ 5» الوحيدة بين الفرق التي تغرف من المصدر «المشروع» للراب، لكن لنقل إنّها الأنضج والأبرز والأنقى حتّى الآن. تعِب رموز الأغنية السياسية اللبنانية أو فقدوا حبل التواصل مع الشباب، أو بهتت ــــ أقله في الشكل ــــ مصادر إلهامهم (مع انحسار حركات التحرّر والنزعة المطلبيّة اليسارية). ومن الواضح أن الراب احتلّ جزءاً أساسياً من الساحة، فصار اليوم «الملك»، وخصوصاً أنه يمدّ جذوره في ثقافة شبابيّة متعددة الروافد: بين السمعي والبصري والتشكيلي والشعري، وكلها تحاكي في الشكل والمضمون هموم الجيل الجديد واهتماماته.
مع الوقت، راح العاملون في مجال البرمجة الفنيّة يلتقطون هذه الحالة ويفسحون لها مجالاً في قلب المدينة... وضمن هذا السياق تندرج المبادرة التي تقوم بها حاليّاً ثلاثة مراكز ثقافيّة أجنبيّة في العاصمة اللبنانيّة، هي «معهد غوته»، والمركز الثقافي الإيطالي، والبعثة الثقافية الفرنسية، بالاشتراك مع جمعية «السبيل». كل هؤلاء تعاونوا على إطلاق «مهرجان الراب الأوروبي ــــ اللبناني»، في إطار برنامج «بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009».
الجزء الأوّل من المهرجان، قام على ورش عمل استضافتها خمس مكتبات عامة تابعة لشبكة جمعية «السبيل» (راجع الكادر). أما الجزء الثاني، فهو الحفلة الختامية التي تقام الليلة في «مسرح المدينة» وتجمع الفنانين الذين أداروا ورش العمل وبعض الذين شاركوا فيها.
ورش العمل تلك، جمعت خبرات فنانين عالميين ولبنانيين، أو ناشطين على الساحة المحلية. الورشة الأولى (المكتبة العامة ــــ الباشورة/ بيروت) تمحورت حول الصوت والصورة في ثقافة الـ«هيب ــــ هوب»، وأدارها فنان الفيديو حكيم زوهاني الآتي من الضواحي الباريسية، معقل فناني الراب الفرنسيين من أصل مغاربي. وعاونه من لبنان «سيسكا» وهو فنان غرافيكي عمل سابقاً مع فرقة «قطاع بيروت»، وفنان الفيديو عمر زين الدين.
في بعقلين (الشوف)، حملت ورشة العمل عنوان «الأداء المسرحي»، وأدارها إدوار عباس ونصر الشربجي من الفرقة اللبنانية «فريق

شكل فنّي خاص يتسع لهموم الجيل الجديد واهتماماته
الأطرش»، إضافة إلى الممثلة والناقدة رغده معوض والمغنية، ومقدمة البرامج الألمانية نينا سونينبرغ. هدفت هذه الورشة إلى تعليم التقنيات الخاصة بأداء الراب على المسرح.
أما في طرابلس، فتطرقت الورشة إلى كيفية صناعة الإيقاع في موسيقى الراب، واستخدام أنظمة الكمبيوتر وبرامجها الخاصة بالصوت. أشرف على هذا الجانب فنان الراب الإيطالي فرنشيسكو دي جيزو، وشارك من لبنان الشاعر والصحافي مازن السيّد وياسين قاسم عضو فرقة «آي ــــ فويس» إضافة إلى عازف العود عماد حشيشو.
في السياق ذاته، تركزت ورشة العمل في المكتبة العامة في منطقة الجعيتاوي (بيروت) على «علبة الإيقاع» أو الـ Beat Box، وهي «الآلة الموسيقية» الأساسية في موسيقى الراب، لكونها تضبط إيقاع النص والأداء. اهتمّ بهذا الجانب كلّ من فنان الراب الألماني توبياس بورك، وعضو فرقة «فريق الأطرش» فايز الزهيري، ومن «كتيبة 5» يسري الشامي ومغني الراب محمد الحاج أو «رمسيس».
أما الورشة التي تمحورت حول الموضوع الأكثر جاذبية برأينا، فأقيمت في الهرمل، وحملت عنوان «الزجل في مواجهة الراب». استدعت الحالة انضمام فرقة الراب البعلبكية «الطفار»، لكونها على تماس بالثقافتين وملمة بأصولهما، ما يخوّلها أن تعلب دوراً حيويّاً على مستوى التواصل بين قطبين، يبدوان نقيضين للوهلة الأولى. شارك في الورشة شباب من المنطقة مهتمون بالزجل، وأشرف عليها الفنان الفرنسي حسين بن مبروك، وعضوا فرقة «كتيبة 5» اللبنانيّة ــــ الفلسطينية عمرو عبد الرحمن وطارق الخطيب، إضافة إلى عازف الإيقاع محمد همدر.
والليلة سيطلع الجمهور، خلال الحفلة الختامية، على نتيجة تلك التفاعلات والتمارين. إذ يجتمع المشاركون لتقديم عرض متواصل لساعتين، تتداخل خلالهما خبرات الفنانين الأجانب واللبنانيين، والإضافات التي جاء بها الهواة ممن تابعوا ورش العمل. ويحرص المشاركون على أن يعكس هذا العرض صورة متكاملة تمتزج فيها المشاغل والتجارب والتقنيات التي احتضنتها المحترفات الميدانيّة خلال الأيّام الماضية.


20:30 مساء اليوم ـــ «مسرح المدينة» (بيروت). للاستعلام: 01/753010