تحتلّ موقعها في الحركة الطليعيّة الإيرانيّة، مزاوجةً بين التصوير الزيتي والفيديو آرت والفوتوغرافيا، لتروي فصولاً من تاريخها الحديث
خليل صويلح
حطت فريدة لاشاي رحالها في دمشق أخيراً. إنه حدث استثنائي. هذه التشكيلية تحتل اليوم موقعاً طليعيّاً في الحركة الفنيّة المعاصرة في إيران، إذ تزاوج بين التصوير الزيتي والفيديو آرت والفوتوغرافيا. معرضها الدمشقي الأول الذي تستضيفه صالة «رافيا» فرصة لمواكبة أبرز محطاتها التشكيلية خلال مسيرتها. سنتوقف ملياً أمام عمل تجهيزي مقتبس من لوحة «غداء على العشب» للفرنسي إدوارد مانيه (1832 ــــ 1883). كانت اللوحة الأصلية (1863)، قد أثارت سخطاً أثناء عرضها في باريس. حتى أنّ إميل زولا كتب معلّقاً حينها «يا للفجور! امرأة عارية بين رجلين! لم أرَ هذا من قبل».
تستعيد لاشاي خلفية اللوحة القديمة، بعد أن تكسي المرأة العارية بغطاء، وتبرز ساقيها الحافيتين، وهي تجلس بين شابين بلباسهما العصري. هكذا تتناوب رؤية مانيه للجسد الأنثوي، وصياغات لاشاي التعبيرية، على شريط واحد. الاحتشام المصطنع هنا، يحيل إلى تهكم، وربما إلى احتجاج مضمر، في ما يخص محرمات القيم الاجتماعية. هناك من سيصدم للجرأة في تحطيم جماليات لوحة كلاسيكية لها مكانتها الاستثنائية في الذاكرة التشكيلية العالمية. في أعمالها الزيتية، تقتفي لاشاي أعمال الانطباعيين في لوحات الطبيعة الصامتة، لكنها تضع بصمتها الشخصية بفرشاة نزقة، وحركات رشيقة تحوّل المنظر الطبيعي إلى مشاهد تجريدية خالصة بخطوط خشنة، تنطوي على شغف بالألوان الصريحة والاستلاب العاطفي للموجودات مهما قلّ شأنها.
أزرق بول سيزان يبدو جليّاً في مناخات لاشاي، لكن بإضافات نغميّة مشرقة، لا شك بأنها تمنح السطوح طمأنينة عميقة وغنائية ممتدة إلى التخوم. ليست هذه الأعمال إعادة اعتبار للانطباعية بقدر ما هي ردم للمسافة بين منجز غربي وتطلعات شرقية متفلتة من المقاييس الكلاسيكية. لاشاي (1944) التي درست التصوير في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا، أواخر الستينيات، وجدت نفسها فجأة أمام أسئلة متناقضة بخصوص بيئتها الشرقية الأولى، ومقترحات الحداثة الأوروبية، فاستفادت من مخزون ثقافي متنوع ومنفتح على الثقافات الأخرى.
هكذا عملت نحّاتة، ومصممة كريستال، كما درست الأدب الألماني وكتبت رواية واحدة بعنوان «جاء ابن آوى». رواية تمزج السرد بالرسم في مواكبة ثلاثة أجيال من النساء الإيرانيات ممن عملن على مناهضة الواقع الاجتماعي والسياسي في إيران. سنجد شيئاً من مناخات هذه الرواية وتطلعاتها السردية في مجموعة لوحاتها القديمة «أقنعة شهرزاد»، في دفاع عن نسوية موءودة. ولعل عملها الفوتوغرافي التركيبي عن السياسي الإيراني محمد مصدّق الذي أطيح بانقلاب في الخمسينيات، يبرز ولعها في التعبير عن موقفها السياسي مما حدث. صورة مصدّق بالأبيض والأسود، لقطة نادرة للرجل مديراً ظهره للكاميرا ومتكئاً على عصاه. ظل أسود طويل ومائل يغادر مبتعداً، كأنه يطوي حلمه المجهض.
عدا الحنين إلى تلك الحقبة، تضيء هذه الصورة، واللوحة المقتبسة عنها، العلاقة الوثيقة بين التاريخ والتجربة الحيّة، إضافة إلى افتتان لاشاي بمواقف هذا الرجل الوطني، في شهادة بصرية أخّاذة، مثلما هي استعادة مضادة للحظة راهنة، تتمثّل في مجاز بصري وثقافي، يبدو واضحاً في توجهات هذه الفنانة التي تقف في منطقة فاصلة بين الإخلاص لموروث فارسي عريق، والطفرة الحداثية الأوروبية من دون استلاب لمقترحات جاهزة. الموجة التشكيلية التي تنتمي إليها فريدة، تواكب صياغات عباس كياروستامي في السينما، لجهة بناء الكادر والتكثيف والبلاغة البصرية. إذ تقف تجاربها بمحاذاة المشاريع السينمائية الجديدة في السينما الإيرانية.
سلسلة لوحات «الشجرة»، تستحق هي الأخرى وقفة خاصة، نظراً لخصوصيتها في سياق تجربة لاشاي عموماً، سواء بخصوص مغامرتها في اللون، أم لجهة الانخطاف الذي تتركه لدى المتلقي. ليست أشجاراً بقدر ما هي كائنات متجاورة، نكاد ننصت إلى نداءاتها، في مزيج لوني متناوب.


حتى31 تشرين الأول (اكتوبر) ــــ صالة رافيا (فندق فورسيزن ــــ دمشق) ــــ www.rafagallery.com