مقاهٍ وحانات للثقافة بعيداً عن الـ«داون تاون»زينب مرعي
كانت بيروت ذات يوم مدينة مزدهرة، تحتل الثقافة فيها مكانةً محوريّة في الحياة العامة. ثم انحسر العصر الذهبي، ومعه ذهب جيل كامل، بطقوسه وعاداته ومرجعياته، إلى متحف الذاكرة. تقوقعت الممارسات الثقافيّة في بعض الدوائر الضيّقة، وأغلقت المقاهي، وضاع مثقفو السبعينيات في متاهات الـ«داون تاون» ومشاريع الإعمار. وحدها حفنة صغيرة بقيت صامدة، مثلقبيلة منقرضة، في زوايا منسيّة من شارع الحمرا الذي كان قد فقد وهجه لأسباب كثيرة. صارت مدينة المستقبل بلا أماكن عامة تحتضن الثقافة. ولم يبق سوى الحنين إلى أيام زمان... هكذا مرّت السنوات العجاف، والحمرا يعاني التصحّر الثقافي... كان لا بدّ من أن يأتي جيل جديد، ليقيم علاقة أخرى مختلفة مع الفضاء العام، أو أن ينتفض بعض أبناء الجيل الوسيط ليتصوّروا أماكن أخرى، وأشكال جديدة للتعاطي مع ثقافة هي الأخرى باتت تعيد النظر بأشكالها ومراجعها. شيئاً فشيئاً أبصرت النور فضاءات بديلة، لا تشبه «مقهى الرصيف» السبعيني من «الهورس شو» إلى «الإكسبرس» وصولاً إلى «المودكا» (تلك الفئة من الفضاءات ما زالت متمثلة بـ«السيتي كافيه»)... في السنتين الأخيرتين، ازداد عدد الفضاءات البديلة تلك، وتنوّعت، في منطقة الحمرا ورأس بيروت. عادت لتحتضن الثقافة كما يقول أصحابها اليوم...
تلك الأماكن البديلة من مقاهٍ وحانات، تختار بعناية لائحة أمسياتها الثقافيّة المتنوّعة، وتروج لها كمادة أساسيّة أكثر من قائمات الطعام. على قائمة مأكولات حانة The Doors التي تهتم بالروك الأصيلRed Hot Chili Peppers burger أو Guns'N'Roses salad تيمناً بفرقتي الروك الشهيرتين... أمّا وليد عكر صاحب Mojo، فيحصر لائحة أطعمته «بالخفيف» كي لا تشغل الساهرين عن دسامة البرنامج الموسيقي الذي يقدّمه. يرفض وليد عكر إطلاق اسم الحانة على Mojo: إنّه «نادٍ للموسيقى الحيّة، أو بالأحرى نادٍ للجاز هو الأول من نوعه في لبنان. أريد أن أروّج لنوع معيّن من الموسيقى، ذلك الذي يبعث على الفرح والتفكير معاً». إلّا أنّ لائحة الطعام تبقى ضروريّة لتسيير عجلة النادي ذي الطراز «النيويوركي» الذي افتتحه عكر الصيف الماضي ليستضيف فرقاً أميركيّة محترفة في الجاز والبلوز، إلى جانب فرق لبنانية شابة.
بلال الأمين من مقهى «ة مربوطة» لا ينافس المقاهي الأخرى بلائحة الأطعمة، «افتتحنا المقهى عام 2006، ليكون مكاناً لتنظيم الندوات وعرض الأعمال الفنيّة ويحتضن خصوصاً ابداعات الشباب. لكن هذا الفضاء يحتاج إلى تمويل نفسه، لهذا أعطينا بعض الاهتمام للجانب الخدماتي المقهى». هنا، يعرض بعض الشباب أفلامهم وينظّم بعض أساتذة الجامعة الأميركيّة في بيروت ندوات لإبعاد طلّابهم عن أجواء الجامعة.

هنا شعر وفكر وعروض، هناك سلطة Guns'N'Roses وبرغر Red Hot Chili Peppers

لكن «ة مربوطة» لا يعتمد في برمجته على إطار عمل صارم، من نوع «لجنة تنظيميّة» تشرف على النشاطات ـــــ عكس حانتي «دينمو» و«جدل بيزنطي» مثلاً ـــــ بل يفتح المجال لمَن يمتلك مشروعاً يتماشى مع صيغة المكان... ما يجعل نشاطاته أكثر تنوعاً من الحانات الأخرى، حيث تحمل الأمسيات بصمات المنظّمين. صاحب حانة «دينمو»، الكاتب علي نصّار، يستعين بكلّ من لين أبو زكي، ورحاب الجوهري، وشربل سيف، وناظم السيد، لتنظيم الأمسيات حفاظاً على تنوّع البرمجة... علماً بأنّ الأمسيات الشعريّة تطغى على برنامج الحانة.
أمّا في «جدل بيزنطي»، حيث الشاعر ناظم السيد يسهم أيضاً في تنظيم الأمسيات، مع الشاعرين غسان جواد وشبيب الأمين (صاحب الحانة)، فالشعر هو السيد المطلق للمكان. تنظّم الحانة أمسية أسبوعيّة، كذلك تكرّم حالياً عشرة شعراء ضمن احتفالية «بيروت عاصمة عالميّة للكتاب». هنا، سيترك الشاعر برجه العاجي، ليلاقي الناس في الحانات: بالنسبة إلى ناظم السيّد «استُضعِف الشعر عندما عُزل في المنابر وتحوّل إلى فنّ نخبوي. قطيعته مع التراث والتقليد تحوّلت إلى قطيعة مع الجمهور. عبر تنظيم هذه السهرات، نحاول إعادة الصلة بين الشعر والجمهور كي يرى أنّه يمكنه التواصل مع الشعر. وبالتالي أن يحبّه أو يكرهه. رهاننا أن يضع الشاعر «بضاعته» على الطاولة، وأنا مع أن يكون الشعر «منتجاً» بالمعنى الجدّي للكلمة، لا بالمعنى الاستهلاكي. على الشعر أن ينزل إلى الشارع ويُهان ويُذلّ ويثبت جدارته. وإذا لم يصمد في الشارع فمعناه أنّه لا يستحق الحياة».
قد يفاجأ المرء بأن الأمسيات الشعريّة هي الأكثر صخباً، بل تتفوّق على الموسيقى. تقع هنا على الكثير من الشعر والفكاهة والخمر، على صورة الحياة العصريّة أو البوهيميّة في نظر أهل الثقافة والإبداع ولا تستطيع كبح التعليقات المتطايرة هنا وهناك. ورغم طموح أصحاب هذه الحانات بإيصال أصداء أمسياتهم إلى الناس بمختلف شرائحهم، وجعلها تنخرط هي أيضاً في المشروع، إلّا أنّ جمهور هذه الأمسيات يبقى نخبوياً بمعنى ما، لنقل إنه نواة مدينة، مشروع مدينة مقبلة.


الشاعر السعودي إبراهيم غريفاني سيكون ضيف حانة «جدل بيزنطي» في التاسعة من مساء اليوم. تتخلل السهرة قراءات شعريّة وتوقيع لكتاب «نسيس الروح» ـــــ للاستعلام: 01/343451